آية المباهلة

 

وهي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَـذِبِينَ﴾ آل عمران:61.

 

الآية المباركة في سياق الكلام عن حقيقة المسيح (ع) التي كان النبي (ص) في خضم بحثها مع وفد من نصارى نجران (جنوب غرب الجزيرة العربية)، والتي أكد اللّه تعالى فيها أن المسيح (ع) عبد مخلوق للّه وأن خلقه من أم فقط وليس من أم وأب لا يعني ألوهيته، ثم يضع لذلك البحث نهاية قاطعة بأن يأمر نبيه (ص) أن يدعو الوفد المسيحي إلى المباهلة، أي الملاعنة، وذلك بأسلوب معين، وبالوقوف في مجموعة معينة من الأبناء والنساء والأنفس. يجمع المفسرون دون استثناء على نزول الآية في علي وفاطمة وابنيهما (ع). من ذلك ما ذكره الزمخشري (الكشاف ج1 ص482) أن وفد نصارى نجران جاءوا وتحدثوا مع النبي (ص) ماذا يقول في عيسى (ع) وبعد أن أوضح لهم العقيدة الحقة فيه، ثم نزلت الآية تأمر النبي(ص) بأن يتوقف عن المحاججة فيه وأنهم إذا أرادوا الإستمرار في ذلك يدعوهم إلى المباهلة، فضرب لهم موعداً وجاء وهو محتضن الحسين وآخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: ‹‹إذا أنا دعوت فأمّنوا››، فعندما رآهم الأسقف وهو رئيس وفد النصارى قال: "يا معشر النصارى إني أرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة!" فقالوا: "يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا"، قال: ‹‹فإذا أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم›› فأبَوا ولكنهم انتهوا في الأخير إلى المصالحة والسلم بين الطرفين، إلى آخر الرواية.

 

هذه من الآيات التي لا يعرفها المخالفون لمنهج اهل البيت (ع)، أعني عوامهم، حيث يعتم علماؤهم عن هذه الآية وغيرها كي لا ينفتحوا على الحقيقة. وإلا، فإن النبي (ص) بفعله على أرض الواقع يفسر الأبناء بأنهم الحسن والحسين (ع) والنساء بأنها الزهراء (ع) وبالأنفس أنه علي (ع)، ما يرفع هؤلاء الأربعة إلى أعلى منزلة ممكنة. فإن قيل أنه (ص) أتى بالحسنين (ع) لأنه لم يكن عنده ولد (كون ولديه من خديجة (ع) توفيا رضيعين في مكة وولده إبراهيم (ع) من مارية توفي صغيراً)، فماذا يقولون عن الإتيان بفاطمة (ع) وليس بإحدى بناته الأخريات (أو ربيباته كما يذهب البعض) أو بإحدى نسائه، سيما من يضعها المخالفون لمنهج اهل البيت (ع)في أعلى منزلة؟

 

وبعيداً عن كل هذا، ما معنى أن يأتي بعلي (ع)؟ بل ما معنى أن تأمر الآية بالإتيان بالأنفس؟ المتوقع أن يأمر المولى سبحانه نبيه (ص) بشيء مثل "نأتي نحن وأنتم"، لا "ندعو أنفسنا وأنفسكم"، إذ ما معنى أن يدعو شخص نفسه؟ بل لا يوجد هناك حاجة لهذا لأن النبي (ص) هو بلا شك الذي سيقود هذا الطرف فتكون دعوة الأبناء والنساء مفهومة أن اللّه يأمر بأن يضم الطرف المباهل هذا هؤلاء الأبناء والنساء. إذاً، ليس أمر اللّه تعالى في هذه الآية المباركة بالقول ﴿وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾ إلا لإظهار المنزلة الكبرى لابن عمه علي بن أبي طالب (ع)، تلك المنزلة التي لا منزلة فوقها وهي نفس النبي (ص) خير البشر أجمعين. ولا شك أنه لا علي (ع) ولا غيره يمكن له أن يصل إلى منزلة النبي(ص)، لا بمعنى الاتحاد بين شخصين، ولا بمعنى المساواة في الفضل، فإن النبي (ص) لا يوازيه أحد في فضل، ولكنها تقول للناس جميعاً بأن هذا العبد الصالح وصل عند اللّه تعالى منزلة عبر عنها بهذا التعبير بحيث كأنه وصل الغاية في الكمال الإنساني الذي وصله النبي (ص).

 

وقد وجدت بعد ذلك أن النبي (ص) أكد هذه الحقيقة عندما أرسل رسالة إلى قوم يسمون بني وُليعة يهددهم فيها بأنه سيرسل إليهم من هو كنفسه، ثم بعد ذلك أرسل علياً (ع) فعلاً لتأديبهم.

 

ولأني أعتبر هذه الآية أعظم فضيلة لعلي (ع) – كونها تجعله نفس النبي (ص) – فإني أحب أن أذكر ههنا بعض الروايات التي تذكر كيف أن النبي(ص) أكد هذا المعنى في الآية، كما هي عادته (ص) في التنبيه إلى مكانة أخيه وابن عمه ووزيره (ع).

 

منها ما رواه الحاكم في المستدرك ج2 ص120 من حديث عبد الرحمن بن عوف بعد فتح مكة ومحاصرة الطائف أن النبي (ص) قال بعد ذلك: ‹‹أيها الناس إني لكم فرط وإني أوصيكم بعترتي خيراً، موعدكم الحوض، والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً مني – أو كنفسي – فليضربن أعناق مقاتليهم وليسبيّن ذراريهم››. ذكره ابن حجر في ص75 من الصواعق والهيثمي في المجمع ج9 ص134 وغيرهم.

 

واستخدم النبي (ص) نفس اللفظة بقوله في قضية بني المصطلق: ‹‹لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلكم ويسبي ذراريكم›› ثم ضرب بيده على كتف علي (ع). ذكره الزمخشري في تفسير الكشاف في تفسير قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آَمنوا إنْ جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات:6).

 

واستخدمها النبي (ص) في بني وُليعة كما أخرجه النسائي في خصائصه ص19 والهيثمي في المجمع ج7 ص110 بسند عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، ورواية أُبيّ أن النبي (ص) قال: "‹‹لينتهينّ بنو وُليعة أو لأبعثن عليهم رجلاً كنفسي ينفذ فيهم أمري فيقتل المقاتلة ويسبي الذرية›› فما راعني إلا وكف عمر في حجزتي من خلفي، وقال: من يعني؟ قلتُ: إياك يعني وصاحبك! قال: فمن يعني؟ قلتُ: خاصف النعل، قال: وعلي (ع) يخصف النعل..." (ويبدو أن أُبيّ بن كعب احتمل أن عمر ربما داعبه الأمل أن يكون هو أو أبا بكر من يعنيهم النبي (ص)، أو ربما يريد أن يصدق أو لا يصدق المراد الذي فهمه ولا شك، فقال له "إياك يعني وصاحبك" على نحو الاستهزاء، بحيث أن عمر عرف أنه يستهزئ فسأله ثانية عن مراد النبي (ص).)

 

ماذا نستفيد من آية المباهلة؟

 

وكعادته في الإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، فإن السيد شرف الدين نبّه في كتابه (الكلمة الغراء) إلى بعض الأمور المهمة في آية المباهلة، وهي على سبيل الإختصار كالآتي:

 

أولاً: أن النبي (ص) "لم يدع للمباهلة لا أمهات المؤمنين ولا صفية بنت عبد المطلب وهي عمته ولا أم هاني بنت أبي طالب ولا غيرهن من الهاشميات ولا واحدة من نساء الخلفاء الثلاثة أو غيرهم من المهاجرين والأنصار. كما لم يدع أحداً من أبناء الهاشميين ولا واحداً من أبناء الصحابة، على كثرتهم ووفور فضلهم، مع سيدي شباب أهل الجنة. ومن الأنفس لم يدع مع علي (ع) لا عمه العباس ابن عبد المطلب ولا أحداً آخر من عشيرته الأقريبن أو من السابقين الأولين رضوان الله تعالى عليهم".

 

ثانياً: أن "مباهلته (ص) بهؤلاء الأربعة علي وفاطمة والحسنين(ع) والتماسه التأمين على دعائه بمجرده فضل عظيم بانتخابهم لهذه المهمة العظيمة".

 

ثالثاً: نبه إلى نقطة "يعرفها علماء البلاغة والراسخون في العلم العارفون بأسرار القرآن وهي أن الآية الكريمة ظاهرة في عموم الأبناء والنساء والأنفس وإنما أطلقت هذه العموميات عليهم بالخصوص تبياناً لكونهم ممثلي الإسلام وإعلاناً لكونهم أكمل الأنام وبأنهم صفوة العالم وخيرة الخلق من بني آدم وتنبيهاً إلى أن روحانيتهم الإسلامية وإخلاصهم لله في العبودية ما ليس في أحد من الناس، فصارت دعوته المباهلة بهم مغنية عن سواهم".

 

رابعاً: نبّه إلى نقطة أخرى وهي أن "اختصاص الزهراء من النساء والمرتضى من الأنفس مع عدم الاكتفاء بأحد السبطين من الأبناء دليل على تفضيلهم عليهم السلام لأن علياً وفاطمة لما لم يكن لهما نظير في الأنفس والنساء كان وجودهما مغنياً عن وجود من سواهما، بخلاف كل من السبطين، فإن وجود أحدهما لا يغني عن وجود الآخر لتكافئهما. ولذا دعاهم النبي (ص) جميعاً ولو دعا أحدهما دون الآخر لكان ترجيحاً دون مرجح مما ينافي الحكمة والعدل".

 

خامساً: ما دلّت عليه الآية "من فضيلة لعلي (ع) تضمحل دونها الخصائص وتفنى الفضائل والمناقب ألا وهي كونه نفس النبي (ص) وهو الفضل الذي تعنو له الجبال خضوعاً وإجلالاً وتتصاغر دونه الهمم يأساً من بلوغ مداه ﴿ذلكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يشاءُ واللهُ ذُو الفَضلِ العَظيم﴾ (الحديد:21)".

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com