قبسات من نور الكوثر
الحديث عن الصديقة الكبرى فاطمة
الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام صعب مستصعب لا يدركه إلا الله ومن
عرفّه الله ذلك وهم النبي وأهل بيته عليهم السلام .
وكيف يتأتى لأمثالنا الحديث
عن فاطمة وهي من دارت على معرفتها القرون الأولى ، وهي قطب دائرة الإمكان ومحور
البيت النبوي ، وهي العلة الغائية للخلق وللكون بأسره.
وقد أشار إلى ذلك
الحديث الشريف (ما خلقت سماء مبنية....إلا لأجل هؤلاء الخمسة ) .
وفي حديث قدسي آخر (لولاك (النبي) ما خلقت
الأفلاك ولولا علي لما خلّقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما).
ولقد حاول البلغاء
والأدباء والمتكلمون على مر التاريخ إدراك بعض معانيها ووصف بعض حالاتها فعجزت
عن ذلك ألسنتهم، وكلّت عن بلوغ وصفها أقلامهم وقصرت عن الحديث عنها كلماتهم،
فانقلبوا بغرفة من المحيط الواسع، وأنّى يحيط القاصرون بعقولهم المحدودة إدراك
المعاني السامية التي احتوتها فاطمة عليها السلام وإنما سميت فاطمة لأن الخلق
فطموا عن معرفتها.
ويبقى مع كل ما تقدم
أن الميسور لا يسقط المعسور ، ومالا يدرك كله لا يترك كله، ويبقى علينا بذل ما
أمكن من أجل أداء بعض الحق تجاهها وتجاه من جعلت مودتهم اجر الرسالة {قل لا
أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}.
وهو يحدونا ما إلى الحديث عن السيدة الزهراء عليها السلام
وفاءاً لبعض الدَين ، وانتصاراً لأول ظلامه في تاريخ الإسلام ، بما تستوعبه
عقولنا القاصرة ، وتؤديه العبارات الضيقة ، مسترشدين في ذلك بأحاديث من عرفوها
حق معرفتها وأرشدوا الناس إلى ما يجب عليهم اتجاهها.
إن الملاحظ لأحاديث الرسول (ص)
وأهل بيته عليهم السلام يجد أن للزهراء عليها السلام منزلة سامية لا يوازيها
احد من العالمين ورفعة شأنها واليك بعض من هذه الأحاديث...
قال رسول الله (ص): (إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها )
وقال (ص): (إن الله تعالى أختار من النساء أربع مريم وآسية وخديجة وفاطمة)
وقال (ص): (إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذُرّيتها على النار)
وقال (ص): ( فاطمة بضعة مني فمن سرها فقد سّرَّني ومن ساءها فقد
ساءني ، فاطمة أعز الناس عليّ)
وقال (ص): ( إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانا ويقينا)
ونتساءل عن السر
وراء هذا التركيز؟
وما السبب الذي يجعل الزهراء عليها السلام محور البيت النبوي؟
وما الذي يجعلها مستودعا للسر؟
ولعلنا لا نحظى بإجابة شافية عن ذلك، فلعل في دفنها سراً وبقاء قبرها
مجهولا إلى اليوم إشارة إلى عدم إمكان الوصول إلى كامل المعنى ، وتمام المغزى
من وراء ذلك ، لكن ذلك لا يحول بيننا وبين تلمّس بعض الإجابة عن هذه الأسئلة
الحائرة.
إجابات قاصرة:
لعل المتتبع لأحاديث النبي وأهل بيته عليهم السلام والباحث في سيرتهم،
مع مزيد من التأمل يجد أن بعض السر وراء الاحتفاء بشخصية الزهراء عليها السلام
يكمن في الأسباب التالية:
أولا:
الشخصية الإيمانية التي جسدتها صفات السيدة فاطمة عليها السلام وسيرتها
الذاتية، والتي أهلتها لتكون خير أهل الأرض بعد أبيها وبعلها عليهما السلام
وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فهي الوليدة التي فتحت عينها على نور
الرسالة بعد بعثة النبي (ص) ،
فنشأت في حجر سيد المرسلين ، وغذتها امرأة من خيرة النساء والتي قام الدين على
نصرتها وهي السيدة خديجة عليها السلام ، ثم واكبت الزهراء عليها السلام مسيرة
الدعوة حانية على أبيها (ص) لتكون له رغم صغر سنها نعم المواسي فكانت (أم
أبيها) ، تمسح عنه آلام الدعوة ، وتزيح عن كاهله أعباء الرسالة.
وحين بلغت مبلغ النساء تزوجت
نصير النبي الأول الصديق الأكبر والفاروق الأعظم علي بن أبي طالب عليه السلام ،
الذي تحمل ما تحمل في نصرة الدين مجاهدا بسيفه أعداء رسول (ص) والذي لولاه لما
كان لفاطمة كفءٌ على وجه الأرض ، ثم أنجبت منه سبطي هذه الأمة الإمامين
العظيمين الحسن والحسين عليهما السلام سيدي شباب أهل الجنة واّلذَين انحصرت
فيهما ذرية الرسول (ص) ليصدق بذلك الوعد الإلهي {إنّا أعطيناك الكوثر} أضف إلى
كل ذلك مجموع الفضائل والمناقب التي مّيزت الزهراء عليها السلام.
نعم هي حياة قصيرة في عمر
الزمن ، لكنها حافلة بكل معاني الإيمان والتقوى والفداء والتضحية لتكون الزهراء
عليها السلام بذلك المثل الأعلى والنموذج الأكمل للشخصية الإيمانية.
ثانيا:
تشكل الإمامة في مفهومنا الديني الحلقة الأهم التي تتم فيها رسالة النبي
(ص) فهي الامتداد الطبيعي للدعوة وكمال الدين وتمام النعمة {اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ، ولولا الإمام لساخت
الأرض بأهلها وهي لا تخلو من وجود إمام يحتج الله به على عباده ظاهرا كان أم
مستترا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا المفهوم الذي ركّز عليه الرسول (ص)
بعبارات مختلفة ومناسبات شتى أبرزها قوله (ص) (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم
ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) ، وبيعة الغدير ، وحديث
الدواة والقرطاس ، وهو المفهوم الذي جسده الإمام قبل وبعد خلافته ثم ما تحمله
أبناؤه عليهم السلام واحدا تلو الآخر إلى أن يأذن الله لوليه الإمام الثاني عشر
المهدي (عجّل الله فرجه) بالظهور ليملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما
وجورا.
وكانت فاطمة عليها السلام مصدر
هذا المبدأ ، فهي الكوثر الذي نبع منه معين الإمامة ، وتربى فيه الإمامان الحسن
والحسين عليهما السلام فكان التركيز على شخصيتها ومكانتها تركيزا على هذا
المفهوم ، وحلقة في سلسلة هداية الأمة إلى هذا الركن الوثيق ، والعروة الوثقى ،
والصراط المستقيم.
وقد كان للسيدة الزهراء عليها
السلام بعد وفاة النبي (ص) الدور الأبرز في الدفاع عن مفهوم الإمامة المتجسد في
خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) لرسول الله (ص) بلا فصل ، داعية الأمة للعودة
للمعين الصافي ، والنبع الأصيل ، لكن الأمة رفضت الخيار الإلهي ولجأت إلى
خيارها إلا من عصم الله.
ثالثا:
تشكل الأيام القليلة التي عاشتها
الزهراء عليها السلام بعد وفاة النبي (ص) أيام المحنة والألم في حياتها ، فهاهي
ترى الأمة تبتعد عن نهج رسول الله (ص) هو لا يزال مسجى على فراش موته ، لم
يغسّل بعد ولم يكفن بعد ، وتحاول عليها السلام إعادة الحق إلى نصابه بالدعوة
تارة وبالاحتجاج أخرى ، وراحت تعلن غضبها وسخطها جملة المهاجرين والأنصار الذين
لم يحفظوا رسول الله (ص) فيها، (والمرء يحفظ في ولده).
فمع أنها كانت ابنته الوحيدة حينذاك والأمة لا تزال قريبة عهد به (ص)، إلا أن
ذلك كله مضافا إلى توصية الرسول (ص) بها وأحاديثه عنها لم يشفع لدعوة الزهراء
عليها السلام بل إنها راحت تكابد آلام فراق النبي (ص) مشفوعة بالآم جحد النص ،
والبعد عن المنهج القويم الذي خطه (ص)
فكان الحديث عن الزهراء (ع) حديثا عن
مظلومية النبي (ص) والأذى الذي لحق به من أمته حيا وميتا وإبرازا للمعاناة التي
عاناها أهل بيته بعد فقده ، والحديث ذو شجن....
هذه بعض الإجابات القاصرة التي يمكن أن تشكل سببا يجعل من الحديث عن
شخصية الزهراء (ع) موردا للتركيز من قبل النبي (ص) وأهل بيته (ع) وما خفي علينا
من كرامتها عند الله ومنزلتها أكبر من كل ذلك ، لا تستوعبه أفهمانا ، ولا تطيقه
عقولنا ، أدخره الله لها في عرصات القيامة ومواقفها ، حين تتكشف الحقائق وترفع
الحجب.
وهذا ما يجعل الباحث عن سيرة الزهراء
(ع) حائرا فيم يكتب ومن أين يبدأ ، وقد سيق القول أن الميسور لا يسقط المعسور
فجاءت هذه الأسطر المتواضعة شاهدة على قلة البضاعة ، نرفعها إلى مقام ولي الله
الأعظم الإمام المنتظر شاهدين على أنفسنا بالعجز والتقصير...
عن كتاب
قبسات من حياة الزهراء (ع)
للشيخ عبد اللطيف الشبيب (قدس سره)