مع ليلة القدر ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿ ٢﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿ ٣﴾ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴿ ٤﴾ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿٥﴾]
المعنى العام في تفسير سورة (انا انزلناه في ليلة القدر)

﴿إنا أنزلناه﴾
الهاء كناية عن القرآن وإن لم يجر له ذكره صريحا، ومع ربط هذه الاية مع الاية الاخرى وهي قوله تعالى: (حم ،وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)، يتضح ان المراد في التزيل هو القران الحكيم، اضافة الى ما ورد في ذلك من الروايات التي تتحدث عن ليلة القدر، فهل كان نزول القران دفعة واحدة في ليلة القدر ام نزل على مراحل متعددة ؟

عن ابن عباس قال: (أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ {اي من العرش} إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم كان ينزله جبريل(ع)على محمد (صلى الله عليه وآله) نجوما {اي بدفعات متفرقة}، وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة).
اي أن الله سبحانه ابتدأ بإنزال الكتاب عبر وحيه في ليلة القدر، حيث أنزله من اللوح المحفوظ إلى السفرة وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا، ثم ينزل به جبرائيل (ع) على النبي تدريجيا في السنة كلها إلى مثلها من السنة القادمة كما في بعض التفاسير

الا ان هناك رأيا اخر مفاده: أنّ القرآن الكريم نزل تدريجياً خلال (٢٣) عاماً، اي منذ تكليف النبي حتى وفاته، ولكنه نزل على قلب النبي دفعة واحدة في ليلة القدر كما توحي الاية:(انا انزلناه)، حيث يستفاد من كتب اللغة: أن التنزيل هو النزول التدريجي، والإنزال له مفهوم واسع منها النزول الدفعي، فيفهم من التعبير(انا انزلناه) اي ان القران كله كان له نزول دفعة واحدة في ليلة القدر، ويؤكد ذلك الاية الاخرى وهي قوله تعالى:﴿والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾،اي ان كل الكتاب نزل في ليلة القدر، الا ان الاذن للنبي بالكلام فيه انما يكون بعد نزول الوحي، وهو مصداق قوله تعالى:(لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه وقرانه).
وهو ما دفع بعض المفسرين بالقول الى ان هناك نزولان للقران النزول الدفعي، وهو نزول القرآن بأجمعه من اللوح المحفوظ(اي العرش) إلى السماء الدنيا او على قلب النبي .

وهناك النزول التدريجي، وهو ما تمّ خلال (٢٣) سنة من عصر النبوّة والذي كان يتناسب مع الاحداث الاجتماعية والسياسية في حينها تثبيتا لرسالة النبي وتأكيدا على نبوته ومقامه الرباني

وقد اشتملت تعابير الآيات عن نزول القرآن احيانا على كلمة "إنزال" واخرى على كلمة "تنزيل" كما في الايات التالية:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)

(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)
(تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين )
(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا)


وهو ما يستلزم تسليط الاضواء على ليلة القدر وخصوصياتها وهو ماسيكون في عدد من المباحث القادمة بإذن الله:
وللبحث تتمة

 

 

 

مع ليلة القدر ٢

في معنى ليلة القدر

ورد في معاني ليلة القدر تفاسير عدة نوجزها بما يلي:

* قيل انها سميت ليلة القدر لكونها ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس أي له منزلة وشرف عند الناس، ومن قوله تعالى:(مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)اي ما عظّموه حق عظمته، وكذلك قوله:(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ )أي ما اعطوا الله حق عظمته وشأنه.

* وقيل سُميّت ليلة القدر لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا.
* وقيل سُميّت ليلة القدر لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر وهو القران، إلى رسول ذي قدر، على يدي ملك ذي قدر، الى امة ذي قدر، كما في قوله تعلى (كنتم خير امة اخرجت للناس).
* وقيل سُميّت ليلة القدر لانها هي ليلة التقدير بانزال القران على نبيه وحجته ليكون كتاب الله الشامل للبشرية كلها في طيهم مراحل سيرهم بحسب التقدير الالهي لنهايتهم قبل يوم القيامة.
* وقيل سُميّت ليلة القدر لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله (ومن قدر عليه رزقه)اي ضيق عليه رزقه.
* وقيل انها سُميّت ليلة القدر لانها ليلة مباركة لان الله ينزل فيها البركة والمغفرة(أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
* وقيل انها سُميّت ليلة القدر لانها الليلة التي ينزل الله فيها تقديره للارض بجملتها وللافراد فردا فردا كما سيأتي في الروايات من انها الليلة التي يحكم الله فيها ويقضي بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر.

ويظهر من مجموع التفاسير والروايات ان الله سبحانه قد سماها الله ليلة القدر، لان المراد بالقدر هو التقدير حيث يقدر الله فيها حوادث السنة، من ليلة القدر الحاضرة إلى مثلها من قابل (اي ليلة القدر من السنة القادمة)، فيقدر فيها ما يكون من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك، كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في وصف الليلة المباركة بقوله:﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، ومعنى فرق الأمر الحكيم هو أحكام الحادثة الواقعة تبعا لما شاء الله لها من التقدير، فالله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولكن المصاديق الواقعة التي ستنزل الى القضاء انما تكون في ليلة القدر فهي التي يجري فيها أحكام الأمور المستقبلية بحسب التقدير الالهي.
وللبحث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٣

 

في دوام ليلة القدر والملامح العامة لسورة القدر

لا شك ان ليلة القدر كانت على عهد رسول الله (ص) ولكن هل استمرت من بعده ام انها انتهت بوفاته؟
ورد عن أبي ذر في المصادر المختلفة أنه سئل رسول الله فقال: يا رسول الله هل ليلة القدر هي شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها (ما ينزل) فإذا قُبضوا رُفِعت؟ فقال ص :لا ، بل هي إلى يوم القيامة .

ولذا ورد في احاديثنا انها تنزل على حجة الله المعصوم من الانبياء او الاولياء الى يوم القيامة كما سيأتي في محله، اضافة الى ان التعبير في الاية بقوله سبحانه:(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) يكشف عن الاستمرارية والدوام في نزول الملائكة بأمر الله في كل ليلة قدر، وذلك لان (تنزّل) فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل)، كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾، أن هذه الليلة تتكرر بتكرر السنين في كل شهر رمضان من كل سنة قمرية، وفيها تقدر أمور السنة كاملة الى الليلة إلتي مثلها من قابل(اي العام القادم)، ولكن السؤال هو على من تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بعد وفاة رسول الله؟ وهو ما سيأتي توضيحه

اما المقصود بـ "الروح"في قوله تعالى :﴿تنزل الملائكة والروح﴾
فقيل: إنّه جبرائيل الأمين، ويسمّى أيضاً الروح الأمين.
وقيل: إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى:(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)
وقيل ان للروح تفسيرا آخر ورد في الروايات وهو الاقرب، وهو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق (ع) عندما سئل عن الروح هل هو جبرائيل، فقال ع : جبرائيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: تنزل الملائكة والروح ؟

اي ان الملائكة تختلف عن الروح، وفي رواياتنا ان الروح ينزل على حجة الله المعصوم في ليلة القدر ليعلمه بالمستجدات الفعلية التي ستحدث في السنة التي فيها ليلة القدر الى السنة التي تليها في مثل ليلة القدر الاخرى، فان حجة الله من الانبياء والاولياء وان كان عندهم علم عمومي بمسيرة البشرية وما تنتهي اليه الامور الا ان العلم التفصيلي بالاحداث الواقعة يكون في ليلة القدر كما سيأتي شرحه في الروايات.
وللحديث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٤

 

في تحديد معالم سورة القدر

في تتمة شرح معالم سورة القدر في الحلقة السابقة بعد بيان معنى الروح ودوره في اخبار حجة الله المعصوم بالمستجدات الواقعة، فان عبارة:(تنزل الملائكة والروح بامر ربهم) تبين ان الإخبار لحجة الله بما سيحدث من متغيرات انما هو من الله وبأمره (بأمر ربّهم)، مما يدل على معنى الربوبية وتدبيره للعالم كله بامره وقدرته جل شأنه، وان عمل الملائكة في تلك الليلة هو جزء من مهامهم الربانية المكلفين بها كما هو شأن خلقهم والمهام التي جعلها الله لكل منهم في جميع الازمان والاوقات، حيث تنزل الملائكة الموكلين بليلة القدر للقيام بواجباتهم التي جعلت بعهدتهم.

كما ان وصف ليلة القدر بقوله تعالى:(من كل امر سلام، هي حتى مطلع الفجر) اي ان ليلة القدر تكون ليلة مفعمة بالخير والسلامة والرحمة من بدايتها حتى الصباح وليس في ساعة منها فقط، فتعبير السلام لغة في المصادر هو :السلام والسلامة والتعري او الخلو من الآفات الظاهرة والباطنة، فيكون قوله:
﴿سلام﴾هو إشارة إلى العناية الإلهية في ليلة القدر بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه في هذه الليلة المباركة بالعبادة والذكر والعمل الصالح واغلاق باب النقمة عليهم، والافاضة عليهم من فضله ورحمته.

كما ورد ايضا في معنى (سلام) أن الملائكة يسلّمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين وتعبير السلام هو اكثر من التسليم والتحية فهو يشمل الدعاء لهم والاستغفار لهم والتأمين على دعواتهم كما في قوله تعالى في عموم دعاء الملائكة للمؤمنين :(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، ولذا في هذه الليلة المباركة تمتلأ الارض بملائكة الله التي تؤمن على دعاء المؤمنين وتدعوا لهم حتى طلوع الفجر او انتهاء ليلة القدر بفوز من فاز بسعادة الدارين وشقاء من شقى باعراضه عن ذكر ربه.
وللحديث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٥

 

في تحديد ليلة القدر

تعددت الاقوال في تحديد ليلة القدر فقيل هي أول ليلة من شهر رمضان، وقيل هي ليلة سبع وعشرين، وقيل هي في العشر الأواخر من شهر رمضان (وهو مذهب الشافعي)، اما في روايات اهل البيت فقد ورد انها تطلب في ليال تسعة عشر، واحدى وعشرين، وثلاثة وعشرين كما سيأتي في محله، وان كانت هناك روايات تحث علي طلبها في العشر الاواخر
فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله ) انه قال: التمسوها في العشر الأواخر.
وعن علي (عليه السلام) قال: [أن النبي (ص) كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان إذا دخل العشر الأواخر دأب وأدأب أهله].
وعن أبي عبد الله (ع) قال: [كان رسول الله (ص) إذا دخل العشر الأواخر شد المئزر واجتنب النساء وأحيا الليل وتفرغ للعبادة].

كما انه ورد عن ابن طاووس في رواية نقلت عن ان لكل ليلة من ليالي القدر شأنية خاصة تستوجب احيائها جميعا كما يأتي في الرواية التالية التي وردت في كتاب الاقبال وهي:( وقد كنت اجد الروايات متظاهرات في تعظيم هذه الثلاث ليال المفردات ليلة تسع عشرة واحدى وعشرين وثاث وعشرين فربما اعتقدت ان تعظيمها لمجرد احتمال ان تكون واحدة منها ليلة القدر، ثم وجدت في الاخبار ان كل ليلة من هذه الثلاث ليال المذكورة فيها اسرار لله جل جلاله وفوائد للعباد مذخورة ومن ذلك ما رويته باسنادي الى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني فيما رواه في كتاب الصوم من كتاب الكافي فقال باسناده عن زرارة قال ابو عبد الله ع:(التقدير في ليلة تسع عشرة والابرام في ليلة احدى وعشرين والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين)
وسيأتي ما ورد في الروايات عن ليلة القدر في الحلقة القادمة.
وللبحث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٦

 

في عظم ليلة القدر

قال الله سبحانه تعظيما لشأن هذه الليلة وتنبيها لعظم قدرها وشرف محلها مخاطبا نبيه ﴿وما أدراك ما ليلة القدر﴾ فكأنه قال وما أدراك يا محمد ما خطر ليلة القدر وما حرمتها، وهو حث على التفرغ فيها للعبادة والذكر.

ثم اوضح سبحانه تعظيمه لليلة القدر فقال: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ أي ان قيام ليلة القدر والعمل فيها هو خير من قيام ألف شهر ليس فيه ليلة القدر(اي من الشهور العادية)، والله سبحانه له وحده تقدير اهمية الاوقات وتفضيل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع للعباد كما في قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) ، فكانت ليلة القدر خيرا من ألف شهر والروايات فيها كثيرة

عن رسول اللهﷺ:[إِنَّ اللهَ اختَارَ مِنَ الأَيَّامِ يَومَ الجُمعَةِ، وَمِنَ الشُّهُورِ شَهرَ رَمَضانَ، وَمِنَ اللَّيَالِي لَيلَةَ القَدرِ] .

عن أبي عبد الله ع قال:[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اِثنَا عَشَـرَ شَهرَاً فِي كِتَابِ اللهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فَغُرَّةُ الشُّهُورِ شَهرُ رَمَضانَ، وَقَلبُ شَهرِ رَمَضانَ لَيلَةُ القَدرِ]


الا انه قد يرد على الاذهان هل ان العدد (ألف) الوارد في الآية المذكورة في سورة القدر هو للعدّ الحقيقي أو هو للتكثير (كما في قوله تعالى (ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) والجواب هو :أنّ العدد عادة يستعمل للعد الحقيقي إلاّ إذا توفرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير، والظاهر في الاية ان العدد المذكور هو عدد فعلي، اي ان العبادة في ليلة القدر تعدل عمرا يقارب الثمانين سنة من الطاعات المقبولة .
ولذا قال تعالى عن ليلة القدر: ﴿وما أدراك ما ليلة القدر﴾ كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله ) قال:[ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه].

وعن أبي عبد الله (ع) عندما سأله بعض اصحابه:عن ليلة القدر كيف تكون خيرا من ألف شهر؟ قال: [العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر].
وللحديث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٧

 

في منزلة ليلة القدر

وعن الامام محمد الباقر (ع) عندما سئل عن دوام ليلة القدر ومنزلتها في قوله تعالى:﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ قال:[ نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عز وجل: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾، يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل من خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل و رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشية].
قال السائل:﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ أي شيء عني بذلك؟

فقال: [العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير، خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر{اي في الشهور العادية الخالية من ليلة القدر بمعنى ان العمل في ليلة القدر يعادل العمل في الف شهر او ما يوازي ثمانين سنة}، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات] اي ان هذا العطاء هو هبة من الله للمؤمنين لايصالهم او بلوغهم الجنة فلولا العطاء الالهي لما استطاع المؤمنين الوصول الى الجنة كما ورد في الدعاء( فان عدلك مهلكي)

او كما ورد في دعاء اخر :(اللهم عاملنا بعفوك ولا تعاملنا بعدلك) فلو حاسب الله الانسان على عمله بعدله فان حق الانسان هو ان يدخل النار في اول معصية لله جل جلاله بغير النعم السابقة والاحقة التي يتفضل بها الله على الانسان في كل لحظة منذ خلقه واستمرار حياته حتى بلوغه اجله ولولاها لانعدمت الحياة وفي ادعية الصحيفة السجادية للامام زين العابدين ما يبين هذه المعاني وخاصة دعاؤه في الاستقامة (الدعاء رقم ١٦) مما يجعلها تقدم على الادعية الاخرى الموجودة في غيرها من كتب الادعية والتي لا ترجع بكاملها الى تأليف المعصوم وفيها الغث والسمين
وللحديث تتمة

 

 

مع ليلة القدر ٨

 

روايات ليلة القدر

عن الإمام الصادق ع قال:[رَأسُ السَّنَةِ لَيلَةُ القَدرِ يُكتَبُ فِيهَا مَا يَكونُ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ]
عن الإمام الرضا ع قال:[إِذَا كانَتْ لَيلَةُ القَدرِ غَفَرَ اللهُ كَمِثلِ مَا غَفَرَ فِي رَجَبٍ وَشَعبانَ وَشَهرِ رَمَضانَ إِلَى ذَلِكَ اليَـوم، إِلَّا رَجُلٌ بَينَـهُ وَبَينَ أَخِيـهِ شَحنَـاءُ، فَيَـقُـولُ اللهُ عَـزَّ وَجَلَّ: اُنظُرُوا هَؤُلَاءِ حَتَّى يَصطَلِحُوا]

عن الامام الباقر ع عندما سئل عن اهمية ليلة القدر في قوله تعالى:﴿إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ﴾ قال:[نَعمْ هِيَ لَيلَةُ القَدرِ، وَهِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهرِ رَمَضَانَ فِي العَشرِ الأَوَاخِرِ، فَلَمْ يَنزِلُ القُرآنُ إِلَّا فِي لَيلَةِ القَدرِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ﴿فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ﴾ قال: يُقَدِّرُ فِي لَيلَةِ القَدرِ كُلُّ شَيءٍ يَكُونُ فِي تِلكَ السَّنَةِ إِلَى مِثلِهَا مِنْ قَابِلٍ مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ وَطَاعَةٍ وَمَعصِيَةٍ وَمَولُودٍ وَأَجَلٍ وَرِزقٍ]

وعن الامام الصادق ع عندما سئل عن اللَّيَالِي الَّتِي يُرجَى فِيهَا مِنْ شَهرِ رَمَضانَ؟
فقال ع :[تِسعَ عَشـرَةَ وَإِحدَى وَعِشـرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشرِينَ.
قيل له: فَإِنْ أَخَذَتْ إِنسَانَاً الفَترَةُ (أي الفتور بعد النشاط) أَو عِلَّةٌ، مَا المُعتَمَدُ عَلَيهِ مِنْ ذَلِكَ ؟ فقال ع : ثَلَاثٍ وَعِشرِين]

وعن الامام الباقر قال:[إِنَّ الجُهَني{وهو راعي لغنم وإبل} أَتَى النبيﷺ فقال: يا رسولَ الله إنَّ لِي إِبِلاً وَغَنَماً وَغِلمَةً، فَأَحِبُّ أَنْ تَأمُرَنِي بِلَيلَةٍ أَدخُلُ فِيهَا فَأشهدُ الصَّلَاة وذلك فِي شهرِ رَمَضانَ، فَدَعَاهُ رَسُول اللهِﷺ فَسَارَّهُ فِي أذُنِهِ {همس في أذنه سراً} فَكانَ الجُهَني إِذَا كانَتْ لَيلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشـرِينَ دَخَلَ بِإِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَأَهلِهِ إِلَى المَدِينَةِ]

عن الامام محمد الباقر ع عندما سأله زرارة عن ليلة القدر قال:
قال :هِيَ لَيلَةُ إِحدَى وَعِشـرِينَ أَو ثَلَاثٍ وَعِشرِينَ.
قال: أليسَ إنّما هي لَيلةُ الجُهَني؟
قال ع: بَلَى.
قال: فأخبِرني بها.
قال ع: مَا عَلَيكَ أَنْ تَفعَلَ خَيرَاً فِي لَيلَتَينِ؟ ).

عن الامام الصادق ع عندما سأله احد اصحابه ويدعى ابو بصير عن اللَّيلةُ الَّتي يُرجَى فِيها مَا يرجَى؟
فقال ع: فِي لَيلَةِ إِحدَى وَعِشـرِينَ أَو ثَلاثٍ وَعِشرِينَ.
فقال: فَإِنْ لَمْ أقوَ عَلَى كِلتَيهِمَا؟
فقال ع: مَا أَيسَرُ لَيلَتَينِ فِيمَا تَطلُبُ.
قال: فَرُبَّمَا رَأَينَا الِهلَالَ عِندَنَا وَجَاءَنَا مَنْ يُخبِرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَرضٍ أُخرَى؟
فقال ع: مَا أَيسَرَ أَربَعَ لَيَالٍ تَطلُبَهَا فِيهَا.
قلت: جُعلتُ فِداك، ليلةُ ثلاثٍ وعشرين ليلةُ الجُهَني؟
فقال ع: إِنَّ ذَلِكَ لَيُقَالُ.
قلت: جُعِلتُ فِـدَاكَ إِنَّ سليمانُ بنَ خـالدٍ رَوى في تِسعَ عَشرَةَ يُكتَبُ وَفدُ الحاج؟
فقال ع: يا أبا محمَّدٍ وَفدُ الحَاج يُكتَبُ فِي لَيلَةِ القَدرِ، وَالمَنَايَا، وَالبَلَايَا، وَالأَرزَاقُ، وما يكونُ، إلى مثلِها فِي قابلٍ، فَاطلُبهَا في ليلةِ إِحدَى (وَعِشـرِينَ) وَثَلاثٍ (وَعِشـرِينَ) وَصَلِّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنهَا مِئةُ رَكعةٍ، وَأَحيِهِمَا إِنِ استَطَعتَ إِلَى النُّورِ، وَاغتَسِلْ فِيهِمَا.
قال: قلت: فَإِنْ لَمْ أَقدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَا قَائِم.
قال: فَصَلِّ وَأَنتَ جَالِسٌ.
قلت: فَإِنْ لَمْ أَستَطِع؟
قال ع : فَعَلَى فِرَاشِكَ.
قلت: فَإِنْ لَمْ أَستَطِع؟
قال: لَا عَليكَ أَنْ تَكتَحِلْ أَوَّلَ اللَّيلِ بِشَيءٍ مِنَ النَّومِ، إِنَّ أَبوَابَ السَّمَاءِ تُفتَحُ فِي رَمَضانَ، وَتَصعَدُ الشَّيَاطِينُ، وَتُقبَلُ أَعمَالُ المُؤمِنِينَ، نِعَمَ الشَّهرُ رَمَضانَ كانَ يُسَمَّى عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِﷺ المَرزُوق]

وللحديث تتمة

مع ليلة القدر ٩

 

مستحبات ليلة القدر


١- الغسل:وهو مستحب في جميع المناسبات الاسلامية عموما وقد ورد بشأنه بعض الروايات منها:
عن الإمـام الكاظم ع قال:[مَنْ اغتَسَلَ لَيلَةَ القَدرِ وَأَحياها إِلَى طُلُوعِ الفَجرِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ]
عن الامام الصادق ع قال:[كانَ رَسُولُ اللهِﷺ يَغتَسِلُ فِي شَهرِ رَمَضان فِي العَشـرِ الأَواخِرِ فِي كُلِّ لَيلَةٍ]

٢- إحياء الليل بالدعاء والذكر والصلاة والعبادة الخالصة:
عن رسول الله ﷺقال:[مَنْ قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانَاً وَاحتِسَابَاً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ ] .
وعن الامام الباقر ع قال:[مَنْ أَحيا لَيلَةَ القَدرِ غُفِرَتْ لَـهُ ذُنُوبَهُ وَلَو كانَتْ ذُنُوبَـهُ عَدَدَ نُجُومَ السَّماءِ وَمَثاقِيلَ الجِبالِ وَمَكائِيلَ البِحار]( وفي التعبير بيان عن عظم المغفرة والرحمة مهما كانت الذنوب كبيرة)

عن الامام الباقر ع قال:[مَنْ أَحيَا لَيلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشـرِينَ مِنْ شَـهرِ رَمَضانَ وَصَلَّى فِيهَا مِئـةَ رُكعَةٍ، وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ مَعِيشَتَهُ، وَكَفَاهُ أَمرَ مَنْ يُعَادِيهِ، وَأَعَاذَهُ مِنَ الغَرَقِ وَالهَدمِ وَالسَّـرِقَةِ وَمِنْ شَرِّ الدُّنيَا، وَرَفَعَ عَنهُ هَولَ مُنكِرٍ وَنَكِيرٍ، وَخَرَجَ مِنْ قَبرِهِ وَنُورُهُ يَتَلَألَأُ لِأَهلِ الـجَّمعِ، وَيُعطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُكتَبُ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ]

وفي هذه الاحاديث وامثالها بيان لعظم الثواب في ليلة القدر فهي من ليالي الرحمة الواسعة والعطاء الالهي العظيم الذي يتناسب مع عظمته وعطائه، الا انه ينبغي التنبيه الى ان الاساس في ليلة القدر هو اقبال القلب على الله والتوجه اليه في العبادة له فالمراد بالمستحبات الواردة في ليلة القدر هو التوجه الى عظمة الربوبية وهيمنتها على كل ما في الوجود والتعامل معه سبحانه بما يليق بعظمته وعز جلاله من المعرفة والابتهال والدعاء والعبادة، وما ورد من الصلاة في ليلة القدر فان المراد بها هي الصلاة الخاشعة وليست الصلاة الميّتة الخالية من الخشوع والتفكّر، فركعتين بخشوع وتفكّر خير من مئة ركعة خالية منهما والتي وصفها رسول الله ﷺ بأنها نقر كنقر الغراب، فالمطلوب هو الصلاة التي فيها التقرب الى الله بوعي وانتباه وخشوع وإلّا فالأولى ترك هذا المستحب إلى غيره والاكتفاء ببعض الصلوات والرجوع إلى المستحبّات الأخرى التي تحقق خشوع النفس وتضـرّعها واستكانتها لله تبارك وتعالى، فان ليال القدر هي من اللّيالي العظيمة التي لَا تأتي في العام إِلَّا مرّة واحدة وينبغي استثمارها بأفضل صورة تؤدي إلى صهر النفس وخشوعها لربّها، وذلك ما يتحقق في الالتفات الى النفس اولا والتأمّل في أحوالها وظلمها لذاتها ومحاسبتها كما لو كان قد اقترب أجلها وهي على هذا الحال قبل الشروع في الدعاء فان هذا التقييم للنفس من شأنه ان تتوجه النفس الى الى بخشوع وانكسار.
وللحديث تتمة

 

مع ليلة القدر ١٠

 

ادعية ليلة القدر

 

تتميز كتب الادعية المعاصرة في اشتمالها على مجموعات كبيرة من الادعية والاحراز والصلوات ومعظمها تنسب لاهل البيت ع الا ان العارف بما تعرضت له كتب الادعية من عدم دقة بعض مؤلفيها والتحدث بارائهم وتصوراتهم ومن الاضافة والحذف والتغيير عبر السنوات الطويلة يعلم ان ما سلم من الادعية هو قليل جدا واهمها ادعية الصحيفة السجادية للامام زين العابدين وبعض ادعية شهر رمضان كدعاء الافتتاح الذي يظهر في معانيه ومضامينه انفاس الائمة والذي يستحق ان يقرأ في كل ليلة اما ما يذاع في القنوات الفضائية من الادعية وما يصاحبها من الالحان المؤثرة فهي لا تدل جميعها على صحتها وسلامتها من التحريف وهو موضوع يطول الحديث فيه غير ان المهم في الموضوع هو ماهي الادعية التي يمكن التعويل عليها في ليلة القدر ؟
والجواب على ذلك ان العقول والنفوس تتفاوت في في درجات فهمها للدين ولذا ينبغي للمؤمنين ان يقبلوا على الأدعية أو العبادات التي يعتقدون بصحتها وتتناغم معها انفسهم وتؤثر فيها وتثير فيها الخشوع والانابة فالليلة هي ليلة اخلاص وانقطاع الى الله ينبغي ان تتفرغ فيها انفسهم من افكار الدنيا وهمومها ومشاغلها وتقبل على الله بكلها فالعبادة لكي تحقق أهدافها المرجوّة ينبغي أن تؤثر أثرها في النفس وتترك فيها تغييراً جوهرياً ملموساً، وجميع المستحبّات هي خيارات غير واجبة شرعاً، وهي سـوق يشتـري منـه الإنسـان ما يملك القدرة عليه وتنجذب نفسه إليه، فالمراد من العبادات أوّلا وآخراً هو تغيير نفس الإنسان وارجاعها إلى ربّها وإلى الصـراط المستقيم صراط الأنبياء والأئمة الأطهار.

ولعلّه من المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أن أعمال البرّ والخير (ومنها التصدّق على الفقراء والمستضعفين) قبل الشروع بالإحياء والذكر هو ممّا يفتح أبواب الرحمة الإلهية ويعين النفس في سيرها إلى الله في هذه الليالي المباركة وكذلك تقديم التسبيح والصلوات والذكر قبل الشـروع فى الأدعية والصلاة المستحبة لتزكية النفس واعدادها للمناجاة مع الله،كما يمكن تقسيم الصلاة المستحبة على ثلاثة ليال لإتاحة المجال لمن يرغب في الصلاة أن يؤدي جميع المستحبات بخشوع وحضور قلب.
وللحديث تتمة

مع ليلة القدر ١١

 

من مستحبات ليلة القدر

تقدم الحديث عن حسن الاختيار للادعية التي تقرّب الى الله والتي تشتمل على المفاهيم الايمانية العالية التي تربّي المؤمن وتعينه في سيره الى الاخرة وخصوصا ادعية الصحيفة السجادية فكلنا راحلون عاجلا او اجلا والسعيد من استفاد من عمره ووقته لنيل السعادة الابدية والا فهو الشقاء الدائم الابدي في نار جهنم وهو ماشتملت عليه ادعية الامام السجاد التربوية في صحيفته المباركة التي تضمنت ارقى القيم والمفاهيم التي تقرّب الانسان من ربه في الدنيا والاخرة، فلا شك ان الاعمال الصالحة في ليلة القدر كلها مقبولة ولكن لكل عمل وزنه وقيمته النوعية كما في قوله تعالى(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا) فكما يميّز الذهب بقيمة معدنه عن بقية المعادن كذلك تكون للاعمال قيمتها النوعية المهمة، فمن المعلوم ان لكل عمل صالح نور في القلب وشفافية في الروح تعين الإنسان على التوجه القلبي الى الله وخاصة في هذه الليالي المبـاركة سواء أكان هذا العمل ذا سمة شخصية من دعاء او عبادة او ذا سمة اجتماعيـة كإعانـة المحتاج أو اليتيم او اغاثة الملهوف وما شابه، ولذا فجميع الاعمال الصالحة مستحبة في هذه الليلة المباركة وخاصة تلك التي تهيأ النفس قبل الشروع في العبادة سواء ما كان في مجال صقل الروح وإعدادها لهذه الليلة كالاستماع إلى الموعظة المؤثرة عبر الحضور في مجالس الوعظ والارشاد أو عبر البرنامج التلفازية الخاصة في هذه المناسبة، او عبر قراءة في كتاب أخلاقي أو دعائي لبعض الوقت او من خلال تفكّر الانسان في اعماله الماضية خلال فترة عمره المنصرم، وهل كانت أعماله مقرّبة إلى الله وإلى تحصيل جنّة الخلد؟ أم إنّها كانت مقرّبة إلى سخط الله والى نار جهنّم؟، فحين يجعل الانسان بعض وقته قبل ليلة القدر او قبل الشروع في الاعمال فيها وقتا خاصا للتأمل في حاله وفي مدى التزامه بالأوامر والنواهي الإلهية عموما وفي مقدار ونوع عبادته من صلاة ودعاء وهل هي في تصاعد أم في تنازل، وما هو مقدار ذكره للآخرة وإعداده لليوم الآخر، وما هو مدى غلبة شؤون الآخرة على شؤون الدنيا واشتغالاتها، وأمثال هذه المواضيع التي بيّنها الله في كتابه وتناولتها احاديث المعصومين وادعيتهم، فان ذلك يوقظ القلب ويجعل من ليلة القدر ليلة احياء لروحه فعندها يكون للادعية اثرها في النفس بلطف الله وفضله وهو ما ورد في معنى الحديث الشريف عن النبيﷺ «فكر ساعة خير من عبادة سنة»

فإنّ ممّا يسبّب التوفيق في هذه الليالي المباركة هو الاقبال على الله بتوبة صادقة وعين باكية ودعاء من اعماق القلب والروح فعن النبي ﷺ قال:[قال موسى ع: إلهي أُريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر، قال:إلهي أُريد رحمتك، قال رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال:إلهي أُريـد الـجواز على الصـراط، قال: ذلـك لـمـن تصدق بصدقة ليلة القدر، قال:إلهي أُريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر، قال:إلهي أُريد رضاك قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر]

فالمراد من الادعية والاعمال المستحبة في ليلة القدر هو رجوع الإنسان إلى ربه
ومناجاته بصدق وخشوع وتضرع فقد لا تكون له فرصة اخرى لليلة قدر قادمة وما اكثر الذين كانوا معنا وغادروا الدنيا الى الاخرة ليلاقوا ربهم بما قدموه من اعمالهم الماضية وهو ما يستوجب حسن الاعداد لمثل هذه الليلة العظيمة
وللحديث تتمة

 

مع ليلة القدر ١٢

 

المنهج العام

في ادعية ليلة القدر
 

١- يستحب دائما في الدعاء في كل الاوقات تقديم ادعية التمجيد والثناء على الله (تعالى ذكره) والصلاة على النبي واله ثم الدعاء بعدها بما يرجوا الانسان من ربه، ولذا قد يستحب ابتداء الدعاء في ليلة القدر بدعاء الافتتاح الذي يجمع هذه الموارد كلها ويختمها باروع ذكر لحجة الله في ارضه.

٢- يستحب الدعاء بالادعية التي تقبل عليها النفس وتتفاعل معها سواء اكان من الادعية التي صنفتها كتب الادعية تحت عنوان ادعية ليلة القدر او اي دعاء اخر مهما كان تصنيفه فالمهم اقبال القلب فيه على الله كدعاء كميل الذي هو من املاء امير المؤمنين عليه السلام او دعاء الصباح لامير المؤمنين كذلك او غيره من ادعية التوبة والتوسل الى الله وخاصة ادعية الصحيفة التي لا تضاهيها الادعية الاخرى وبشكل اخص دعاء عرفة الذي هو من اعظم الادعية متنا في محتواه واسلوبه ويليه دعاء مكارم الاخلاق واللذان لا يستغنى عنهما في ليلة القدر وكل المناسبات المهمة اضافة الى الادعية الاخرى التي يعرفها اصحاب الصحيفة السجادية وعشاقها.

٣- استحباب قراءة السور القرآنية التالية:
سورة الروم، سورة العنكبوت وسورة الدخان وما يتيسّـر من كتاب الله.

٤- زيارة أهل البيت ع بالزيارة الجامعة الكبيرة أو الصغيرة ، فهي تمثل الطاعة لله والتقرب اليه بحججه الذين جعلهم اسوة وقدوة وهو ما اشتملت الزيارة في مضامينها

٥- زيارة حجة الله في الأرض في زماننا الحاضر وهو الإمام المنتظر محمد بن الحسن ع والدعاء له تأكيداً على موالاته والإرتباط الروحي والفكري معه.

٦- التوسل الى الله بالأدعية المقرّبة اليه في هذه الليلة، ومن المهم الالتفات الى امرين

الامر الاول: عدم الاكثار من الادعية الطويلة التي يريد الانسان الانتهاء منها لطولها والملل الذي يحدث للنفس بسببها فان بعض الادعية الطويلة المذكورة في بعض كتب الادعية بعنوان انها ادعية ليلة القدر هي خلاف المنهج الذي اتبعه الائمة ع محتوى واسلوبا مما يشكك في صحتها وخاصة عند التحقيق في سندها والمقدمة التي تشتمل عليها رواية الدعاء وهو مالا تتطرق اليه كتب الادعية المعاصرة، علما بان اطول دعاء عندنا هو دعاء عرفة وهو يختلف كليا في مضمونه ومحتواه عن بعض الادعية الطويلة التي تعارف الناس عليها انها تقرأ في ليلة القدر ولذا ينبغي للمؤمن الواعي ان لا يضيع وقته في دعاء لا يتفاعل معه ويذهب لدعاء اخر او مستحب اخر.

الامر الثاني: الذي ينبغي ملاحظته في ليلة القدر: هو الاستفادة من التنويع في الأدعية والمستحبّات في ليالي القدر الثّلاث فيكون لكل ليلة مستحبّاتها المميزة نظراً للمقدار الكبير من الأدعية والزيارات والمستحبّات الموجودة في هذه الليالي حيث يمكن ان يؤدى في كل ليلة بعض منها ويمكن لمن كان عنده مجموعة من كتب الدعاء المتنوعة ان يستفيد منها جميعا في ان يجعل لكل يوم كتاب منها (راجع كتاب عيون الدعاء، وأدعية المتوسلين، ورياض الداعين ومناجاة أهل البيت، ونور القلوب) ففي كل من هذه الكتب مجموعة من أدعية العظيمة التي يمكن استثمارها في هذه الليالي المباركة وتوزيعها بينهم.
وعلى العموم ليلة القدر هي ليلة اقبال على الله فينبغي ان يستعد لها الانسان سلفا ويفرّغ نفسه من كل الهموم والمشاغل الدنيوية ليتفرغ الى الدعاء والعبادة عسى ان يناله برحمته ويفتح عليه من ابواب فضله وكرمه فقد لا تكون هناك فرصة لليلة قدر اخرى، ونسألكم الدعاء في هذه الليلة المباركة والحمد لله رب العالمين

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com