ليلة القدر المنهاج الروحي والعملي

 

بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم ... والصلاة والسلام على اشرف الخلق أجمعين أبا القاسم محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين ... اللهم صل على محمد وآل محمد

قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)

  عندما نتجاوز منتصف الشهر -حقيقة الأمر - تنتاب الإنسان حالة من حالات القلق والاضطراب ، وكأنَ الأنسانَ مقدمٌ على تقديم امتحان آخر العام ، هذا الأسبوع أسبوع مصيري لنا .. وكلنا يعلم أن مقدرات الإنسان .. ولعل الأكوان تقدر في ليالي القدر ، وصحيحٌ أن مقدرات الإنسان في السنة تقدر في ليالي القدر ، ولكن مقدراتي في هذا العام تبتني عليها مقدراتي في كل عمري . فالإنسان عندما يُبتلى هذهِ السنة ببلية في جسمه كمرض مثلاً فسوفَ يعيش طوال عمرهِ وهو يعاني من تبعات هذا المرض ..

   الإنسان الذي يُسلب منهُ التوفيق في هذهِ السنة .. الإنسان الذي يحرم الحج في هذهِ السنة .. الإنسان الذي تُقدر لهُ بعض البلايا النفسية في هذهِ السنة .. هذا الإنسان سوفَ يكون متورطا إمَّا نعيماً .. وإمَّا جحيماً .. إمَّا سعادةً .. وإمَّا شقاءً ..

حقاً أنه أسبوع تقرير المصير ...

( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )
 
كما هو المعلوم أنه يستحب قراءة هذه السورة في الركعة الأولى من كل فريضة، ولكن هذه الليالي والأيام هي تجلي معاني ليلة القدر -هذه الليلة العظيمة-، التي يحاول الإنسان أن يغيّر فيها مقدرات حياته طوال عام كامل ... أن ليلة القدر بدرجة من الأهمية، بحيث أن الإنسان سنة كاملة، وهو يهيئ نفسه لتلك الليلة المصيرية.. انظروا إلى أهمية ليلة القدر...

   هي ليلة ولكن ... أن الليالي كلها متساوية ... فالليل هو عبارة عن حركة تتم في الفلك، حيث أن دوران الأرض حول نفسها، من موجبات تعاقب الليل والنهار.. ولكن الله -عز وجل- أراد أن يبارك في تلك الليلة، فجعلها خيراً من ألف شهر.. وهذا يسمى مبدأ "الاصطفاء الإلهي"، فرب العالمين إذا نظر إلى ليلة؛ بارك في تلك الليلة.. وإذا نظر إلى حجارة؛ جعلها بيتاً له.. وإذا نظر إلى قلب العبد المؤمن؛ جعله عرشاً له.

   فإذن، إن المعادلة هي في النظرة الإلهية للأشياء، فلنحاول أن نستجلب هذه النظرة.. نحن في عالم الطبيعة ننكر الطفرة: حيث هناك تدرج، فليس هناك موجود حيواني في فترة زمنية قصيرة، يصبح حيواناً آخر.. ولكن في عالم الأرواح، الطفرة ليست ممكنة، بل هي ثابتة في حياة الأمم، وفي حياة الأفراد.. فموسى (ع) ذهب ليقتبس ناراً لأهله، فرجع نبياً، نودي: (أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) وكذلك بلقيس جهزت جيشاً لقتال سليمان (ع)، فأصبحت مؤمنة به.. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كن لما لا ترجو، أرجى منك لما ترجو)
وبالتالي، فإن المؤمن يسأل ربه الطفرة في عالم الأرواح، فهذا ممكن جداً، ألم يتب ذلك العاصي لمجرد سماعه هذه الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}؟!..
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)

   إن وزن ليلة القدر لا يُعلم، فالقرآن عندما يصل إلى ذكرِ الآخرة يستعمل كلمة: (وَمَا أَدْرَاكَ) لبيان أهوال يوم القيامة.. فأهوال القيامة غائبة عن الأبصار... فكلمة (وَمَا أَدْرَاكَ) تستعمل في المواطن التي لا تحتمل العقول معناها.. والقرآن الكريم يستعمل كلمة {وَمَا أَدْرَاكَ}، بالنسبة إلى ليلة القدر، لأنه على ما يبدو نحن لا نعلم قيمة ليلة القدر، إلا بعد الخروج من هذه الدنيا.. فعقولنا ضعيفة لا تستوعب هذه الليلة.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)
  
إن ليلة القدر هي من منن الله -عز وجل- على أمة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-.. وذلك لأن رب العالمين يعلم أننا سوف لن نعمل في حياتنا الدنيا، ما نحقق به الدرجات العالية في عالم الجنة!.. فجعل لنا ليلة في السنة وهي {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، والآية لا تقول: ليلة القدر تساوي ألف شهر، بل {خَيْرٌ}!.. يقول البعض: أن ليلة القدر تعادل ألف شهر، من قالبأنها ألف شهر؟.. لعلها ألفي شهر، أو ثلاثة آلاف شهر!.. فنحن لا ندري، والقرآن أبهم في هذه النقطة؟!..

فأحياء هذه الليلة بالعبادة خير من عبادة ألف شهر.
(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)
(تَنَزَّلُ) أصلها "تتنزل" الملائكة فيها.. و(تَنَزَّلُ) فعل مضارع، والمضارع في اللغة العربية يعني الاستمرارية، فلو أن هذه الحركة كانت في زمان النبي (ص) وانتهت؛ لما كانت العملية مستمرة.. وهذه من خصوصيات ليلة القدر في أي عصر: ليس فقط في زمان النبي (ص) ليلة القدر خير من ألف شهر، بل إلى يوم القيامة ليلة القدر خير من ألف شهر.. وإلى يوم القيامة، ليلة القدر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم.. ولكن بعد النبي (ص) على من تنزل هذه الملائكة؟.. عندما نقول: الطائرة هبطت؛ أي هناك مطار هبطت فيه الطائرة، فلكل متنزِّل متنزَّل عليه، ومن يكون في كل زمان غير الحجة؟.. فالأرض لا تخلو من حجة، الحديث يقول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه؛ مات ميتة جاهلية)؛ أي لكل زمان إمام.

(سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)
   ا
لسلام هو التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، فيكون قوله: {سَلامٌ هِيَ} إشارة إلى العناية الإلهية، بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة .. وكذلك إن الله تعالى يحجب عن عبده مصادر الشر، ومنها الشيطان اللعين.. ومن هنا يجد الإنسان في ليلة القدر سلاسة وسهولة في التوجه إلى العالم العلوي، بما لميعهده من نفسه في غيرها من الليالي.. فترى أن بعض الفسقة وبعض قساة القلوب في ليلة القدر، يخشع.. فهذا الخشوع ليس من باب قرب كماله، وليس من باب مجاهدته، وإنما لأن الله سبحانه وتعالى جعل السلام إلى مطلع الفجر.. ومن المعلوم أن الشياطين مقيدة في شهر رمضان، ولكن في ليلة القدر هنالك سلاسل إضافية، وترفع الحجب في ليلة القدر، وتغل الشياطين في ليلة القدر؛ لهذا فإن الإنسان يحلق رغم أنفه.
نقاط تأمل:

أولا: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) الآية تصرح بأن ليلة القدر هي خير من ألف شهر، وبأن ليلة القدر ليلة ازدحام الملائكة في بقاع الأرض، فهل رأى أحد منا ملكاً في ليلة القدر؟..

ثانيا: إن الله سبحانه وتعالى حكيم، فلكل شيء عنده حساب ومثقال وميزان.. ولكن لنا هنا أن نتأمل: ما الحكمة من هذا التفضل الإلهي في ليلة القدر؟.. فهل رب العزة والجلال جعل جزافاً عمل ليلة، لا يساوي ألف شهر، بل جعلها خيراً من ألف شهر؟!.. إن هذه حركة غير طبيعية.. والحق، أن من أعظم صور الرأفة الإلهية على وجه الأرض، هي هذه الليلة المباركة.. إن الله سبحانه وتعالى لأنه يعلم طبيعة الإنسان الميالة للكسل والتقاعس، الموجب لخسرانه الكثير مما يحتاجه، فهو يعلم فقره وحاجته ومسكنته طوال العام، لذا جعل هذه الليلة فرصة ليربح الإنسان فيها صفقة عمره، وليعمل فيها ما يستوجب تقدير مصالحه في هذا العام..

ثالثا: إن الإنسان يقرأ في أدعية شهر رمضان: (أعوذ بجلال وجهك الكريم، أن ينقضي عني شهر رمضان، أو يطلع الفجر من ليلتي هذه، ولك قبلي ذنب أو تبعة تعذبني عليه)!.. فإذا قيل للإنسان أنه قد انقضى نصف الشهر، وهو لا يزال يراوح مكانه.. أليس هذا من موجبات الندم، والبكاء، والاستغاثة بالله -عز وجل-؟!.. فالأسبوع الأخير من هذا الشهر، هو أسبوع مصيري.. لذا علينا أن نقف وقفة تأمل مع النفس: إلى أين وصلنا؟!.. وما الذي اكتسبنا؟..

رابعا: لماذا لا نفكر أن نعمم هذه الضيافة طوال العام؟.. فنقول: (يا رب، أضفتني في هذا الشهر المبارك: وجعلت نفسي تسبيحاً، ونومي عبادةً، ودعائي مستجاباً.. أنا بعد شهر رمضان، إلى أين أذهب؟!.. لماذا لا تبقي لي هذه الضيافة من شعبان ِ إلى شهرِ شوال؟!.. أبقني في ضيافتك)!.. رب العالمين في كل سنة يختار من بيوته جماعة ولو قليلة، للإبقاء في هذه الضيافة المباركة: يتعرفون على ربهم، ويأنسون به في جوف الليل: تلاوة لكتابه، وقِِيّاماً لليلِ ذكراً له.. فإذا انتهى الشهر المبارك في ليلة العيد، يبدأ عزاء هؤلاء.. أي (يا رب، انتهت المائدة، وأنا أخشى من أن تحرمني هذه المائدة طوال العام)، ورب العالمين إذا رأى في الإنسان صدقاً وإصراراً، فسوف لن يُخيب له ظنه ورجاءه.

خامسا: إن هذه الليلة هي ليلة المصالحة مع رب العالمين، فهنيئاً لمن صالح ربه مصالحة مستقرة!.. فهذه المصالحات الموسمية: في موسم الحج نصالح رب العالمين، ثم نعود إلى واقعنا، وفي ليالي القدر، وفي شهري محرم وصفر؛ هذه المصالحات لا تغني شيئاً.. فالإنسان الذي يصالح ربه، ثم يقوم بخلاف المصالحة، هذا في معرض الختم على القلب لا قدر الله.. فرب العالمين يغفر ويغفر، إلا أنه لا يتحمل الاستهزاء به.. فالذين يصممون في هذه الليلة على تغيير مجرى حياتهم، ليثبتوا على ذلك.. فما الذي رأيناه في الإيمان من سلب، حتى نرفع اليد عن طريق الهدى والاستقامة.. في السنة الماضية عزمنا جميعاً على التوبة والإنابة، ولكن هل كنا أوفياء لهذا الوعد ولهذا العهد؟.. في مناجاة الإمام زين العابدين (ع) نقرأ: (إن كان الندم على الذنب توبة، فإني وعزتك من النادمين).. هل كنا صادقين في نية الندامة؟..

سادسا: إن النقطة الأولى الجوهرية ليلة القدر: أن نطلب من الله أن يحول إيماننا من إيمانٍ خوفيٍّ، ومن إيمانٍ رجائي.. إلى إيمان أمير المؤمنين -عليه السلام- (ربي!.. ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك.. ولكني رأيتك أهلا للعبادة، فعبدتك)، وكان يأتي إلى المسجد ويقول: (جلوسي في المسجد، أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة.. لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي.. ورضا ربّي أولى من رضا نفسي).. هذه موازين علي (ع) في التعامل!.. فلنغير من هذه الموازين، ولنخرج من ليلة القدر الكبرى، وقد تغيرت سجيتنا.. هذه الأيام أغلب المؤمنين يتركون الحرام: المواقع، والفضائيات، والنظر.. وبعد ليالي القدر، لا يميلون إلى ذلك.. ولكن بعد ذلك، فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه.. علينا أن نقاتل جنود الهوى، وجنود السلطان.. والإنسان عليه أن يصل إلى درجة، لا تدعوه نفسه للمعصية، ولا تهمه المعصية.

سابعا: إن على المؤمن أن يكون وفيا لإمام زمانه -صلوات الله وسلامه عليه- فـ(بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)..هذه الليلة من لا صلة له بإمام زمانه، ومن لا يناجي في هذه الليلة ويطلب له الفرج، هناك شك في قبول عمله!.. كيف تنزل الملائكة على إمام زمانه في هذه الليلة، وهو لا يتوجه إليه بالخطاب، والحديث معه!..

علينا أن نتوجه إليه بالدعاء والفرج.. وإذا أدركتنا الرقة فلنقل له: يا مولاي!.. نحن الليلة دعونا لك بالدموع الجارية..

   فكما دعونا لك، أنت أيضاً أدعوا لنا.. فالولد يدعو لأبيه، والأب يدعو لولده.. وكلنا أيتام آل محمد(نشكو إليك فقد نبينا)، والنبي (ص) قال: (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).. فالإمام هو أبونا في هذا العصر، ونحن نعيش غيبته وفراقه، ونندبه في أيام الجمعة.. ونقول له: يا مولانا!.. هذه الليلة أنظر إلينا نظرة كريمة، لا لذواتنا بل لما نحمله من الحب لآبائك الطاهرين..

بعض الملاحظات:

لملاحظة الأولى: الدعاء.. نحن نلاحظ في ليلة القدر، أن هنالك جوا من الترتيل والمناجاة والتلاوة المجردة.. وشتان بين أن ندعو، وبين أن نقرأ الدعاء!.. فالدعاء: عملية شعورية، وفاعلة، وحركة في القلب: وجلٌ في القلب، وقشعريرة على الجلد، كما يقول القرآن الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..}.. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك.. فدونك دونك!.. فقد قصد قصدك)!.. فالدعاء عملية واعية وفاعلة، والأئمة -عليهم السلام- كانت تتلون وجوهم قبل دخول ساحة الصلاة: خضرةً، وصفرةً.. فإذن، علينا أن نحول قراءة الدعاء إلى دعاء.

الملاحظة الثانية: المناجاة.. إن دعاء الجوشن هو من أشرف الأدعية، وذلك لأن الإنسان يناجي ربه، ويدعوه ألف مرة ويقول: (الغوث، الغوث!.. خلصنا من النار يا رب)!.. وكذلك يستطيع الإنسان أن يستعين ببعض فقرات دعاء الجوشن للمناجاة مع رب العالمين: (يا خير من خلا به جليس، ويا خير من آوى اليه طريد).. إنها مضامين بإمكان الإنسان أن يتعامل معها كما يتعامل مع دعاء أبي حمزة الثمالي، ولكن -للأسف- فإن أحدنا يقرأ الدعاء وهمه آخر هذا الدعاء؟!..

الملاحظة الثالثة: البرمجة.. إن هذه الليلة تحتاج إلى برمجة وإلى إعدادٍ روحي!.. فالناس ليس كلهم بمستوى التفاعل من أول خطوة، وإنما يحتاجوا إلى إعداد وإلى تهيئة.. لذا علينا أن نتحايل على أنفسنا، في أن نصل إلى هذه الدرجة التفاعلية.. فـ(ركعتان مقتصدتان في تفكير، خير من قيام ليلة والقلب ساه)!.. فهذا منطق الدين: منطق الكيف، لا منطق الكم.

الملاحظة الرابعة: الشعار.. إن على الإنسان أن يضع شعارا لنفسه ويحاول أن يحققه خلال هذا الشهر، وذلك بأن يقول في الدعاء: (اللهم!.. اجعل شهر رمضان هذا، خيرَ شهر رمضان مر عليّ).. ألم يقل الإمام علي (ع): (من تساوى يوماه، فهومغبون)!.. وقياسا على ذلك: فمن تساوى شهراه أيضاً فهو مغبون؟!.. فما العنصر المتميز في شهر رمضان لهذه السنة؛ قياساً إلى الشهر المنصرم في السنة الماضية؟..

الملاحظة الخامسة: ملكوت العمل.. فالمرء الذي يدخل الحمام الذي لا ماء فيه، أو الحمام الذي فيه ماء، ولكن لم يغتسل بصابونِ التوبة؛ فإنه يخرج كما هو!.. القرآن الكريم يدعونا إلى استكشاف ملكوت العمل: خيراً أو شراً.. فالغيبة بمثابة أكل لحم المِيتة، لذا علينا أن نستشعر هذا الملكوت بكل وجودنا..

  هل الذي يرى هذا الملكوت يقدم على ذلك، فضلاً عن استماع الغيبة؟!.. والذي يذهب إلى أحد البنوك ليقدم قرضاً ربوياً، ويضع الملايين في جيبه وهو فرح بهذا العمل؛ لأنه كسب مالاً مغرياً.. بينما القرآن الكريم يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ أي أنه في حكم المجانين.. والذي يأكل مال اليتيم، وهو لا يعلم أن هنالك من يراقبه، يقول عنه القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}..

  وكذلك لكل طاعة ملكوتها، فهنالك بعض الأعمال الواردة أو المنقولة في شهر رمضان، ولمن يريد أن يرى ملكوت ليلة القدر: في ليلة القدر هنالك ازدحام لحركة الملائكة في عالم الوجود.. كما يقول القرآن: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}.. فهل رأينا ملكا، أو ريشة ملكٍ؟.. أين هذا الملكوت في ليلة القدر؟.. لذا علينا من الآن نحاول أن نطلب من الله أن يرينا هذا الملكوت، ويفتح لنا أبواب المعرفة.. لنجعل ليلة القدر في هذه السنة، خير ليلة قدر مرت علينا!..

توصيات عملية:

- الاعتكاف الروحي: إن الشيطان همه تثبيط الهمم عند الإنسان المؤمن، فينبغي الالتفات إلى حيله، فقد يأتي الإنسان، ويقول: ماذا تريد بهذه الحجة أو بهذه العمرة، فإنك سترجع إلى ما كنت عليه؟.. فماذا يفيدك هذا البكاء وهذا النحيب في ليالي القدر؟.. أنت كنت كذلك، وستعود إلى ما كنت عليه؟.. وهكذا يؤيسه، ليثنيه عن التقرب إلى الله عز وجل في تلك الليلة، ليحرمه من بركاتها.

وهنا نقول: هل هناك مانع إذا عجز الإنسان عن زراعة بستان كبير -حيث كان مبتلى بصحراء، ليس فيها خضرة أبداً-، أن يزرع مزرعةً صغيرة؟.. ما المانع أن يزرع واحة صغيرة، ويقول: يا ربي معذرة، إني لم آتك ببستان، وإنما أتيتك بقطعة صغيرة خضراء، فتقبل مني ذلك؟.. فإذا لم يمكن البستان، ألا يمكن الحديقة الصغيرة؟.. وعليه، حاولْ أن تقدم لله عز وجل بستاناً صغيراً، بدؤه ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وختامه ليلة العيد.. فما المانع من ذلك؟.. هي عشر ليال، حاولْ أن تجعل نفسك فيها من خيار المراقبين، وبالغ في مراقبة النفس.. وقل: يا رب، أنا طوال السنة كنت من الساهين اللاهين، ولكن تقبل مني هذا القليل، فقد صمت نهاره، وقمت ليله!.. البعض في ليالي القدر يعيش حالة من حالات الإيجابية، وأما في نهار يوم القدر يعيش حالة اللغو والسهو وحالة الحرام وما شابه ذلك!.. ليكن شعارنا هذه السنة أن نبدأ اعتكافاً روحياً، لا اعتكافاً بدنياً؛ تأسيا بالرسول الأكرم (ص).. لنحاول أن نراقب أنفسنا ليلاً ونهاراً، لنقدم شيئاً مميزاً لله عز وجل.. فإن من نجح في أن يكون متعبداً بين يدي الله تعالى في عشرة أيام، فإن أرضية النجاح متوفرة لأن يكون كذلك طوال عامه، وهذه هي الثمرة الكبرى لليلة القدر.

- العزم على التوبة النصوح: إن البعض يقيس توفيقه في ليالي القدر بكثرة البكاء والتضرع.. والحال أن المطلوب هي حالة الإنابة والتوبة الصادقة، والندامة على ما مضى، والبرمجة لحياة جديدة، ولو اكتفى صاحبها بالتباكي، والتخشع.. فإن الله تعالى لا ينظر إلى صورنا وأبداننا، وإنما ينظر إلى قلوبنا.. ومع ذلك فإنه قد ورد أنه: (ما جفت الدموع، إلا لقسوة القلوب.. وما قست القلوب، إلا لكثرة الذنوب).. أما الذي يبكي ويصيح بما لا يعهد، ثم في النهار أو بعد شهر رمضان يعود إلى ما كان عليه، فما قيمة هذا البكاء في ليلة القدر؟!.. وعليه، حاولْ أن تعيش أجواء الإنابة إلى الله عز وجل.. وأفضل الأعمال أن تتوب، وأن تنيب، وأن تصفي الحساب مع الله عز وجل، وتعاهد رب العالمين أن تجعل عامك القادم خير عام مر عليك.. فإن المغبون من تساوى يوماه، كما ورد في الحديث.. وقياساً نقول: المغبون من تساوت سنتاه، والمغبون من تساوى شهراه، والمغبون من تساوى رمضانيتاه.. فحاولْ أن تعيش هذا الجو.

- الجمع بين الإحياء الجماعي والفردي: إن من المناسب أن يجعل المؤمن لنفسه برنامجين في ليالي القدر: برنامج الانضمام إلى جماعة من المؤمنين الداعين، فإن الرحمة الإلهية غامرة للجماعة المؤمنة، بما لا تنال في المجالس الفردية.. ومن المعلوم أن البعض قد لا يوافق على البرامج الجماعية، ولكن لم؟.. فمن المعلوم أن الدعاء في جمع من المؤمنين أقرب للإجابة.. جماعة من المؤمنين جاؤوا من هنا وهناك: نساء ورجالا وأطفالا وعجزة وكبار السن، تحت سقف من بيوت الله عز وجل، أو في مكان يذكر فيه أهل البيت (ع)، فما المانع في ذلك؟.. فهذه الدعوات الجماعية ترفع البلاءات المقدرة.. ولكن لا ينبغي الاكتفاء بذلك، بل ليجعل الإنسان المؤمن له برنامجاً آخراً للخلوة مع ربه.. فبعد ذهاب الجماعة، خذ زاوية من المسجد، وصلّ صلاة الليل، أو صلّ صلاة القضاء، وادع بما شئت..

  ونحن لا ينبغي أن ننام في هذه الليلة -لا أقول على نحو الوجوب الشرعي-، بل علينا أن نحاول البرمجة لها: بقلة الطعام من أول الليل، والنوم في النهار؛ لأن هذه الأمور من موجبات التثاقل.. فالإنسان عليه أن يحرص على استثمار هذه الليلة، وأن يعض عليها بالنواجذ، ويبقى مستيقظاً.. وإذا كان بالإمكان التفرغ لهذه الليلة، واستثمار الوقت.. وأما المغلوب على أمره، فأمره إلى الله عز وجل.. فإن كان ولابد، فاليكتحلْ بشيء بسيطٍ من النوم، ليتقوى على هذه الليلة .. فعلينا أن نغتنم الفرصة بقلة الطعام والشراب في تلك الليلة.. ومن المناسب أيضا اصطحاب من يمكن من الأهل والأصدقاء لمجالس التنبيه والإيقاظ، فلعل الله تعالى ينقذ بك نسمة من النار!.. فحاولْ أن تكون داعياً إلى الخير.

   إن من علامات القبول في ليلة القدر، أن يعيش الإنسان حالة البرد الباطني.. فحلاوة المغفرة من الأمور التي لا يمكن أن تستوعب من قبل العصاة.. ومن المعلوم أن الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك، من الليالي التي يمكن أن يحدس الإنسان فيها علامة الاستجابة، وقربه إلى الله عز وجل.

- وقفة مع إمام الزمان (عج): إن من أهم أعمال ليلة القدر: أن يعيش الإنسان حالة من الارتباط مع مولاه صاحب الأمر (ع) -ذلك القلب الذي تتنزل عليه الملائكة من كل أمر في ليلة القدر-، فيتكلم معه، ويدعو له بالفرج، ويشكو له هموم الأمة وما آل إليه أمرها.. فإنه الراعي لهذه الأمة المنكوبة.. قل: (اللهم!.. اكشف هذه الغمة، عن هذه الأمة بظهوره، وعجل لنا ظهوره).. فقد مللنا كل شيء، وأصبحنا على يقين أنه لا فرج ولا أمن ولا أمان ولا عزة، إلا بذلك الذي يأتي بالعز، مظهر العزة الإلهية!.. فلتكثر من الدعاء بتعجيل فرجه.. فإذا رق قلبك وجرى دمعك، اذكره ذكرا بليغاً.. ولك أن تتصور أنه إذا دعا لك الإمام (عج) في ليلة القدر، وقال: اللهم!.. استجب دعاءه، واجعله في كنفك، واجعله في درعك الحصينة؛ كما دعا لي بالفرج.. فهل يبقى أمر لم تصل إليه؟!.. وهنيئاً لمن استجاب الله تعالى دعاءه في ذلك، وأذن لوليه الأعظم أن يدعو له.. أو هل تبقى خيبة بعد ذلك؟!..

ومن روائع الأحاديث في ليلة القدر هو هذا الحديث:

قال النبي (ص): قال موسى: إلهي!.. أريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق بصدقةٍ في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد من أشجار الجنة وثمارها، قال: ذلك لمن سبّح تسبيحةً في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد رضاك، قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر.

وأخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

رباب حازم الجواد / شهر رمضان 1436

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com