سنّة الاجتماع

 

قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " 200 آل عمران .

 

في هذه الآية الكريمة تلخيص لتفصيل البيان الوارد في السورة المباركة .

اعطى الله سبحانه وتعالى في هذه الاية أوامر مطلقة ، فامر بالصبر واطلقه .... ، ولم يقيده بنوع دون غيره ، وبذا دل على انه امر بالصبر على الشدائد ، والصبر في طاعة الله ، والصبر عن معصيته .

ولما قابل بين " اصبروا و صابروا " ، كان المراد منه الصبر من الفرد ، مقابل المصابرة من قبل المجتمع ؛ فالمصابرة : هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبرالبعض على صبر آخربن ، وبذلك يتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره .

ثم عطف على الصبر والمصابرة المرابطة فقال : " ورابطوا " وهي اعم معنى من المصابرة ، اذ تعني ايجاد الجماعة الارتباط بين قواهم وافعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية اعم من حال الشدة وحال الرخاء .

اهتم الاسلام بامر الاجتماع اهتماما بالغا ، نشأ الاهتمام لكون النوع الانساني نوعا اجتماعيا ، وان كل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك فهو مفطور على الاجتماع . وقد دل التاريخ ودلت الآثار المشهودة على ذلك ، وأنبأ عنه القرآن احسن إنباء في ايات كثيرة ، كقوله تعالى : " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " الحجرات 31

وقال تعالى :" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " الزخرف 32   الى غير ذلك .

ان هذا الاجتماع الانساني كسائر الخواص الروحية الانسانية وما يرتبط بها ، لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة ، بل لم يزل يتكامل بتكامل الانسان ، وكان اول مظهر من مظاهر الاجتماع الانساني هو الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله طبيعي ، ثم ظهرت منه خاصة الاستخدام وهو توسيط الانسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل ارادته عليه ، وظهر ذلك بصورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة   ... الخ .

ان خاصة الاجتماع لم تفارق الانسانية الا انها لم تكن شعورا بها للانسان تفصيلا ، والقران الكريم يخبر ان النبوة اول ما نبهت الانسان بالاجتماع تفصيلا ، قال تعالى : " ما كان الناس الا امة واحدة فاختلفوا" : يونس 19   .  حيث اكد على ان الناس كانت امة واحدة ساذجة لا إختلاف بينهم ، وبعد حصول الاختلاف بعث الله الانبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين زانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " البقرة 213 .  

وقال : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا يه ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الين ولاتتفرقوا فيه " الشورى 13    فيشير هنا الى ان الدين هو الضامن لاجتماعهم الصالح .

ثم ان الدين الاسلامي هو الدين الوحيد الذي اسس بنيانه على الاجتماع صريحا ، ولم يهمل امر الاجتماع في شأن من شؤونه فقد احصى الاسلام الاعمال الانسانية على سعتها و بسط احكامه عليها ، ثم انفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الانفاذ .

اما الامم المتمدنة وغيرها ، فالتاريخ لا يذكر من امرها الا انها كانت تتبع ما ورثته من اقدم عهود الانسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام ، واجتماع الافراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية ، ومن هنا ظهر الاجتماع القومي والوطني والاقليمي ، وعانى هذا الاجتماع تحت راية الملك والرئاسة ، واهتدى بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرها ، من غير ان يظهر اعتناء بامر الاجتماع عناية مستقلة ، ومن اوضح الامثلة على ذلك امبراطورية الروم والفرس فلم تكن الا قيصرية وكسروية تجتمع اممها تحت لواء الملك والسلطة ، ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه .

وما وجد من ابحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم مثل  سقراط وافلاطون وارسطو وغيرهم ، ما كانت الا اوراق وصحائف لا ترد مورد العمل ، والتاريخ هو اعدل شاهد على ذلك .

إذن اول نداء قرع سمع النوع الانساني ، ودعى الى الاعتناء بأمر الاجتماع من جهة جعله موضوعا مستقلا خارجا من زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الاسلام عليه افضل الصلاة والسلام ، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه الى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين ، قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا " آل عمران 103    ، الى ان قال " ولتكن منكم امة يدعون الى الخيرو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران 104     ، ثم قال " أولئك هم المفلحون " آل عمران 104  .

ان الفرد الانساني لما كان جزءا من المجتمع مرتبطا به ارتباطا حقيقيا ، كان لهذا الارتباط اثر واضح ؛ فمثلما ان للجزء من اي موجود آثار وخواص وكذلك لمجموع الاجزاء اثار خواص اخرى ناتجة عن اجتماع الاجزاء ، مثال ذلك ان للسمع والبصر فوائد خاصة لكل منها ، كان لهما مع باقي اجزاء الفرد الانساني فوائد اخرى ناتجة عن اجتماعها ، فكذلك الفرد والمجتمع ، فللفرد خواص و آثار وكذلك للمجتمع بما هو كل مكون من اجزاء هي افراد النوع الانساني ، اثار وخواص اقوى واعظم من أثار وخواص الفرد .

فهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع تؤدي لامحالة الى كينونة اخرى في المجتمع حسب ما يمده الاشخاص من وجودهم ، وقواهم ، وآثارهم ، فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود ، لذلك اعتبر القرآن للامة وجودا ، واجلا ، وكتابا ، وشعورا ، وفهما ، وعملا ، وطاعة ، ومعصية ، قال تعالى : " ولكل امة اجل فاذا جاء اجلهم لايستاخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف 34    وقل ايضا : " كل امة تدعى الى كتابها " الجاثية 28  .

من هنا نصل الى ان هناك قوى وخواص اجتماعية قوية من شانها ان تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد ، فهمّة الجماعة وارادتها في امرما لاتقوم لها ارادة معارضة او مضادة من واحد  من اشخاصها وأجزائها ، فلا مفر للجزء من ان يتبع كله ويجري على ما يجري عليه ، حتى انه يسلب الشعور و الفكر من افراده واجزائه .

وهذا هو الملاك في اهنمام الاسلام بشأن الاجتماع والدعوة الى المصابرة والمرابطة او تشريع الكثير من الاحكام الفقهية كالحج ، والصلاة ، والجهاد ، والانفاق وغيرها على اساس الاجتماع ، وانها ايضا فرصة الدعوة الى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر .       

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com