الدرس الثاني:

البحث عن الدين

تمهيـد

كما اسلفنا سابقاً ان الدين يحتوي على الكثير من الامور فاذن هو يتجاوز كونه مفهوماً تصورياً او تعبيراً لذلك يعتبر مسألة مهمة والتعريف بها يجب ان يسبق الخوض في الدين كمسألة. مخطط 2- أ. (راجع تعريف الدين في الدرس الاول).

 

 

 

وعند الدخول في موضوع الدين والخوض فيه تواجهنا عدة مسائل اخرى ومن اهمها مسألة البحث عن الدين. مخطط  2- ب.

 

 

 

 

كلنا نعلم ان الافراد غير متساوين في اعتبار ضرورة البحث عن الدين من عدمه كون البحث عن موضوع الدين (فعل انساني) متعلق بارادة الانسان والاخيرة لا تتعلق الا بالافعال التي يرجحها العقل والتي يراها ذات فائدة للانسان مرتكزاً على ما يمتلكه من معلومات مخزونة وكذلك على ما يُميّز به المسائل بعد اقامة الادلة والبراهين كونها مصداقاً لاحد الدوافع الفطرية. مخطط 2- ج.

 

 

 

 

 

 

فالانسان في حقيقته يمتلك العديد من القوى الفطرية وهذه القوى تحب كمالها وكمالها يكون في فعلها. مخطط  2- د.

 

 

 

 

 

فهي تدفع الانسان باتجاه تنفيذ فعلها او فعله فالعقل يكون عندئذٍ كالحكم او القاضي بين هذه القوى في ايقاع فعلها عند التزاحم وترتيب الاهم منها ثم المهم فالاقل اهمية وهكذا، تليها (بعد تعيين الاهم وتشخيصه) مرحلة تعيين افضل واحسن الوجوه للفعل المهم الذي اختاره العقل وهنا يكون العامل الاساسي لهذا التمييز العقلي هو الادلة والبراهين العقلية المقامة، اما الادلة النقلية فتكون من باب الاستئناس والتأكيد وزيادة البصيرة اذ يستحيل ان يكون الدافع لوجوب المعرفة هو النقل دون العقل كما زعم اهل الحديث والاشاعرة لان النقل قبل المعرفة لا حجية فيه اصلاً فكيف يكون دافعاً وموجباً للمعرفة. مخطط 2- هـ.

 

                                       

 

 

دوافع البحث عن الدين ومعرفته وخصوصاً اصول الدين:

الدافع الاول: حب الاطلاع

هذا الدافع الفطري لمعرفة الحقيقة وعلل الاشياء يمكن ان يدفع الانسان الى التفكير والتأمل في القضايا والمسائل التي طرحت بأسم الدين.

في هذا الكون وفي هذه الحياة ظواهر طبيعية مختلفة ففي السماء نجوم وكواكب ونيازك، وفي الجو سحاب والرعد وبرق ومطر، وعلى الارض جبال وادغال وانهار وبحار وفيها الطيور و السباع والحيتان والبشر والجميع في حالة تغيروتبدل ونمو وفناء ومن بين كل هذه الموجودات يبرز الانسان كموجود متميز ذي قوة عاقلة مفكرة تناضل من اجل البقاء ويموت ويولد مثله وعندما يبدأ الانسان بوعي ذاته ووجوده ويجد نفسه واقعاً بين جميع هذه المتغيرات الكونية تختلج في باطن نفسه ثلاث اسئلة تطالبه بالحاح شديد بالجواب عنها وهي:

-         من اين اتيت؟

-         لماذا اتيت؟

-         والى اين اذهب؟

 

السؤال الاول (من اين اتيت؟) في حقيقته هو عن مبدأ الوجود وجوابه بأثبات الخالق ووحدانيته، عندئذٍ تطرح اسئلة اخرى تليها:

-         هل هناك وجود لموجود غير محسوس او غير مادي (غيب)؟

-         هل هناك علاقة بين عالم الغيب والعالم المادي المحسوس؟

اما السؤال الثاني (لماذا اتيت؟) في حقيقته هي عن الغاية من خلقه والجواب يكون بأثبات الخالق وبعث الرسل والتكليف والشرائع (تعيين ما هو الطريق الامثل للمسير)؟

وفيما يتعلق بحقيقة السؤال الثالث (الى اين اذهب؟) فتكون عن النهاية التي يؤول اليها بعد موته وجوابه بأثبات المعاد والعالم الاخروي وبالاجابة على الاسئلة الاخرى:

-         هل ينحصر ويتحدد وجود الانسان بهذا البدن المادي والحياة الدنيوية؟

-         هل هناك علاقة وارتباط بين الحياة الدنيوية والحياة الاخروية بعد اثباتها؟

يلخصها السؤال العام ما هو النظام الصحيح للحياة الذي يكفل سعادة الانسان في الدنيا والاخرة فغريزة حب الاطلاع يمثل الدافع الاول الذي يدفع الانسان للبحث عن كل المسائل والقضايا ومن جملتها المسائل الدنيوية ومعرفة الدين الحق وهو دافع شعوري يجده الانسان في نفسه بشكل عام اي يوجد في جميع الافراد بالفعل منذ بداية حياته وليس بالقوة (راجع مخطط 2- و).

 

 

 

الدافع الثاني: لزوم دفع الضرر

ان التوفر على النعم والمصالح المادية الدنيوية المختلفة متوقف على بذل الجهود العملية وتقدم العلوم التجريبية. ان من جملة ما يحكم به العقل الفطري لزوم دفع الضرر والالم والاذى عن نفسه، مادية كانت ام نفسية ويقبح على الانسان ان يترك نفسه فريسة العذاب واسيرة الضياع وهو يجد لها مخلصاً ومهرباً ينجو بها الى هناء الراحة والطمأنينة والسعادة.

 فالانسان عندما يبلغ اوان ادراكه وتفتح وعيه يرى المجتمعات البشرية التي يعيش فيها (وفيها اهل الصلاح والتعقل والدراية) تتخبط فيها الاراء المتناقضة والمذاهب المختلفة، كلٌ يدعو الى مذهبه ويرى ان فيه السعادة وفي مخالفته الشقاوة. في خضم هذه الاجواء يقف الانسان مرعوباً في نفسه وليس امامه الا ان يسلك طريقاً يؤمن له النجاة ودفع الضرر (كما يشير اليه عقله) لكي يدفع هذا الخوف والالم النفسانيين فهو امامه اكثر من طريق:

أ‌)       اما يعتقد بجميع المذاهب وهذا مستحيل لانها متناقضة في دعاويها.

ب‌)  لابد ان يختار احدها وهو على احتمالين:

1-    يختار عن هوى وتقليد اعمى للغير فعندئذ لن ينجو من حالة الخوف والاضطراب النفسانيين (لم يدفع الضرر).

2-  واما ان يختار عن دليل مقنع وبرهان واضح وقاطع لكل شك وريبة فعندئذٍ يندفع خوفه ويزول المه ويأمن في اجواء العقائد المتضاربة وهو المتعين.

 

تبين ان لزوم دفع الضرر واستجلاب المنفعة هو دافع شعوري ايضاً يجده كل انسانٌ في نفسه بالفعل منذ بداية حياته وشعوره، ومن هنا يظهر ان العقل كما يلزم الانسان بالمعرفة يلزمه ايضاً بان تكون عن دليل وبرهان يقيني فان امكن للدين ان يساعد الانسان على اشباع حاجاته وتوفر المنافع والمصالح التي ينشدها والامن من المضار والاخطار والالام التي تتهدده فسيكون الدين من المجالات التي ينشدها الانسان (راجع مخطط 2- و).

 

الدافع الثالث: لزوم شكر المنعم

ان للعقل النظري حكم بلزوم شكر معطي النعمة وثنائه على ما اعطاه من معروف ومجازاته على ما اظهره من تودد وتلطف ولايكون هذا الشكر ملبياً لذلك النداء الفطري الا اذا كان بما يناسب حال المشكور والا فلو كان دون مقامه لم يكون شكراً بل ربما عده اهانةً واستخفافاً فلابد اذن من معرفة المنعم تمام المعرفة ثم اداء شكره بما يناسب شأنه ومقامه 1. مخطط 2- و.

 

 

 

 

 

 

 

 

ملاحظة:-

ان بعض علماء النفس يعتقد بان لعبادة الله والتدين في واقعه، دافعاً فطرياً مستقلاً يعبر عنه بالشعور الديني فان هؤلاء واستناداً الى شواهد التاريخ وعلم الآثار والمخلفات القديمة يرون بان التدين وعبادة الله ظاهرة ثابتة بشكل من الاشكال، في كل الاجيال البشرية على امتداد التاريخ، وهذا الثبات والشمولية لهذه الظواهر دليل على فطريتها.

ولا نعني بالشمولية وجودها بشكل حي يقظ في جميع الافراد بحيث يدفع الانسان شعورياً لاهدافه المنشودة بل من الممكن ان يكمن ويختفي في اعماق الفرد، نتيجة لعوامل محيطة وتربوية غير سليمة، او انه ينحرف عن مساره الصحيح (كما هو الملاحظ في سائر الغرائز والميول، حيث تتعرض للكمون والاختفاء والانحراف كثيراً او قليلاً) ولكن بما ان تأثير هذا الميل الفطري ليس شعورياً فيمكن لاحد ما ان ينكر وجود مثل هذا الدافع في نفسه عند الجدال لذلك نقتصر في دراستنا عن اهمية البحث عن الدين، من خلال الدوافع الفطرية الشعورية فقط. مخطط 2- ز.

 

 

 

 

 

 

اهمية البحث عن الدين:

اتضح مما سبق ان الدافع الفطري لمعرفة الحقائق (حب الاطلاع) من جانب، والرغبة للوصول الى المنافع والمصالح والامن من الضرر والخطر من جانب اخر، وشكر المنعم هو الجانب الثالث، كل ذلك يشكل دوافع قوية للانسان للتأمل في المعلومات والاراء المكتسبة وتحصيلها.

 

هنا يأتي السؤال لماذا يهمل الكثير من الناس ضرورة البحث عن الدين؟

الجواب:ً

ان من الممكن ان يتجنب البعض البحث عن الدين بسبب الكسل وحب الارتخاء والراحة، او بسبب ان الايمان بالدين يفرض عليهم الكثير من الضوابط والحدود ويمنعهم من بعض الممارسات التي ترغب بها نفوسهم فعليهم تقبل الآثار السيئة لهذا الكسل والغرور وما يعقبها بعد ذلك من العذاب الابدي والشقاء الدائم ومن هنا اعتبر القرآن الكريم امثال هؤلاء الغافلين اضل من الانعام.

(( ... اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون)) ... الاعراف – 179  

(( ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون)) ... الانفال – 22

بعد الاجابة عن السؤال نعود الى صلب الموضوع ونقول ان اي شخص منفتح يعلم بوجود افراد كبار على امتداد التاريخ ادعوا بانهم مبعوثون من خالق الكون لهداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والاخرة، وقد بذلوا اقصى جهودهم في سبيل ابلاغ رسالاتهم، وهداية البشر وتحملوا كل الوان المتاعب والتحديات بل ضحوا بارواحهم في سبيل هذا الهدف فان هذا الشخص بدفع من ذلك الدافع الفطري (حب الاطلاع) يتحرك للبحث عن الدين ليرى مدى صحة دعوى الانبياء وهل توجد ادلة منطقية كافية على صحة دعواهم.

ويزداد الموضوع اهمية للبحث عنه حينما يُعلم بان دعوتهم ورسالتهم تتضمن البشارة بالسعادة والنعمة الابدية والانذار بالشقاء والعذاب الابدي اي ان الايمان بدعوتهم يتعقبه المنافع المحتملة اللانهائية وان عصيانهم يتعقبه الاضرار والاخطار المحتملة اللانهائية (حب دفع المضار وجلب النعم).

ويزداد الموضوع اهمية عندما يعلم هذا الانسان فقره وذلته في مقابل غنى وعزة المنعم ويطرح له موضوع صفات ومنزلة المنعم وطريقة اداء شكره (دافع شكر المنعم) بما يضمن توالي النعمة واستمرارها.

فلا يبقى اي مبرر لهذا الشخص بعدم الاهتمام بالدين وفي موقف اللامبالاة من محاولة البحث عنه، اجل ربما يتشبث البعض للتهرب من التفكير والبحث عن الدين بهذه الحجة:

 

انما يستحسن بذل الجهد والبحث عن قضية ما ومحاولة علاجها، فيما لو كان الانسان يأمل في العلاج خيراً ويحتمل التوصل من خلال جهوده هذه الى الحل والنتيجة ولكن ليس لنا مثل الامل والاحتمال في البحث عن الدين ومسائله والافضل ان يبذل جهوده وطاقته في الاعمال التي يحتمل بل ويأمل فيها اكثر في التوصل الى نتائجها.

 

الجواب:

1)  ان الامل في معالجة المسائل الدينية واحتمالها ليس بأقل من الاحتمال في معالجة المسائل العلمية حيث امكن التوصل اليها نتيجة لعشرات السنين من الجهود المضنية التي بذلها العلماء.

2)  ان قيمة الاحتمال لا تخضع لعامل واحد وهو (درجة الاحتمال) فحسب بل لا بد ان نلاحظ ايضاً درجة المحتمل فمثلاً لو كان احتمال الربح في عمل اقتصادي 5% وفي عمل اخر 10% ولكن مقدار الربح المحتمل الذي يدره العمل الاول مليون دينار وفي العمل الثاني مئة الف دينار فان العمل الاول يُرجح على العمل الثاني بعشرة اضعاف مع ان درجة الاحتمال فيه 5% وهو نصف درجة الاحتمال في العمل الثاني 10% فان درجة المحتمل اعلى من درجة الاحتمال وقيمته وبما ان المنفعة المحتملة التي تتمثل في البحث عن الدين لانهائية ولذلك وان كانت درجة احتمال التوصل الى نتيجة يقينية منه ضعيفة ولكن قيمة البحث عن بذل الجهد في هذا السبيل واهميتها (مقدار المحتمل) تفوق بكثير قيمة البحث في اي طريق اخر له درجة احتمال اكثر لكن نتيجته محدودة وضعيفة (مقدار المحتمل).

 

ونشير هنا اخيراً:

انما يتقبل العقل تجنب البحث عن الدين فقط فيما لو جزمنا ان الدين باطل وغير صحيح او ان مسائله لا تقبل الحل والعلاج ولكن ليس هناك سبيل لهذا الجزم والاطمئنان !!!

 

 

 

 

1 ان لزوم شكر المنعم يعود الى اصل اخر وهو حسن العدل وقبح الظلم وهذا الاصل شعوري ايضاً ويجده كل انسان في نفسه، وان شكر المنعم من العدل كما ان محاسبة المسيء من العدل ايضاً

 

 

 

 

والحمد لله رب العالمين

 

الدرس السابق ... قائمة الدروس ... الدرس التالي