الصلاة الخاشعة    55
 

"حقيقة التوحيد الشامل"
 

   تقدم الحديث من ان التوحيد الشامل ينبغي ان يضم ثلاثة امور هي توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الافعال لينعكس في عقيدة المؤمن وسلوكه او ميدانه العملي وقد تقدم شرح توحيد الذات والصفات وفي هذه الحلقة سيتم تناول توحيد الافعال لينتقل البحث بعدها الى موضوع الركوع والسجود في الصلاة ثم التشهد .

٣) التوحيد في الأفعال : والمراد به هو معرفة أنّ كلّ وجود وكلّ حركة وكلّ فعل في العالم يعود إلى ذاته المقدّسة، فهو مسبّب الأسباب وعلّة العلل في كل الاوقات وكل الازمان، بل وحتى في الأفعال التي تصدر من الإنسان باختياره ظاهراً، فإنّما هي في حقيقتها صادرة عن ارادة الله الكلية وتقديره للعباد، فهو الذي منح الإنسان القدرة والاختيار وحرية الإرادة في العمل في ظاهر الامور، إلّا ان هذا الاختيار الانساني المحدود انما هو في حقيقته خاضع لإرادة الله الكلّية ولا يخرج عن إرادته وتقديره ولا عن قضائه وقدره، فالفاعل الحقيقي هو الله، وكلّ ما في الوجود يعود إليه بتقدير محكم منه.

  فلو لاحظت القلم الذي يكتب به الانسان لوجدت ان الكتابة لا تعود اليه وانما تعود الى اليد التي تمسك بهذا القلم، واليد التي تمسك بهذا القلم انما تتحرك ليكتب العقل الذي يملي الكتابة، والعقل يتحرك بسبب الدوافع الفاعلة فيه والتي تقدح فيه الحركة والنشاط، وهكذا تستمر العلل والمعلولات حتى تنتهي إلى الله سبحانه الموجد لكل شيء كما في الآيات التالية:

(لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
( أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)

وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين في حديث رائع قال فيه:
[عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم، وحلّ العقود، ونقض الهمم]،

   فبينما يخرج الانسان من بيته لعمل معين او لغاية في نيته القيام بها فاذا به يغير نيته ومساره نحو هدف اخر واحيانا بعد ان يقطع جزء من الطريق نحو الهدف الاول !! فمن الذي احدث هذا التغير في نفسه وفكره وسعيه ؟ وهو ما يدل على وجود قوة فاعلة في انشاء قدر الهي يتبع عوامل مختلفة بعضها يعود لأعمال الانسان مما يدل على ان الامور في حقيقتها ابتداء وانتهاء هي بيد الله ولكن ضمن المجال الذي جعله الله موردا لاختبار الانسان وامتحانه في الدنيا لتحديد مكانه ودرجته في الاخرة (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

وفي التوحيد العملي تفصيلات نعرض لها باختصار:

٤) التوحيد في العبادة : أي إنّ العبادة يجب ان تكون لله وحده دون سواه، فلا تجوز لغيره، لأنّ العبادة يجب أن تكون لِـمن له الكمال المطلق ولـمن هو واهب النعم وخالق كلّ الموجودات وهذه الصفات لا تجتمع إلّا في ذات الله سبحانه.
٥) التوحيد في الحاكمية : وهي ناشئة من الاعتقاد بأنّ الـمُلكية كلّها لله سواء أكانت ملكية حقيقية المتمثّلة بالسلطة التكوينية على الأشياء كما في قوله تعالى ﴿وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ﴾، أو في الملكية الحقوقية وهي السلطة القانونية على الشـيء كما في قوله سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ فالملكية الحقيقية للأشياء هي لله وحده دون سواه، حيث يزول المالك النسبي وتبقى الملكية المطلقة لله، وكذلك الملكية القانونية أو التشـريعية تعود لله سبحانه فهو الخالق والمدبّر والذي أمر بالرجوع إلى شريعته وحكمه كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾.

   ومن أحبّ معرفة المزيد من صفات الربوبية فعليه بكلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة حيث أوضح ع في ثنايا خطبه الكثير من معاني الربوبية التي اشتملت على معاني الآيات القرآنية في التوحيد.

وللحديث تتمة

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com